الحلقة السادسة عشر:
دخلت من الباب الحديقة... فتناهت إلي أصوات صاخبة، ميزت من بينها صوت أخي ماهر. قطعت الممشى في خطى وئيدة ثم ارتقيت الدرج و قد أخذت الأصوات تتضح أكثر... يبدو أن طارق قد وصل!
اقتربت من غرفة الجلوس...
ـ السلام عليكم و رحمة الله...
ألقيت التحية فالتفت إلي الحضور. كان طارق يجلس مع كل من أمي و أخي الصغير ماهر الذي يبلغ من العمر 18 سنة... وقف طارق و نظر إلي مطولا :
ـ مرام؟! واااو... ما الذي فعلته بنفسك؟! لقد تغيرت فعلا...
كان ينظر إلى تنّورتي الواسعة و سترتي الفضفاضة و حجابي الذي يغطي كتفي في شيء كبير من العجب... تأملت بدوري قميصه المزركش و سرواله الجينز "المرقّع" و قصّة شعره العجيبة و قلت :
ـ أنت أيضا تغيرت كثيرا!
كان قد قطع منتصف المسافة التي تفصلنا عندما سمع صوتي أبادر بالتحية، لكنه توقف حائرا ثم قال :
ـ أتوقع أنك أصبحت لا تصافحين مثل أمك خالتي زينب...
ابتسمت و هززت رأسي موافقة و لوحت له من بعيد... الحمد لله أنه استوعب الدرس دون متاعب! كنا نتفق كثيرا في فترة الطفولة و بداية الشباب، و نفهم بعضنا جيدا... يبدو أنه حافظ على البعض من قدرته على فهم ما يدور برأسي!
عاد إلى أريكته و هو لايزال يهز رأسه و يمط شفتيه متعجبا :
ـ لم أتوقع أن تتحجبي بهاته السرعة! فأنت مازالت في بداية شبابك و أمامك الفرصة للانطلاق و التمتع بجمالك... شعرك جميل جدا و طويل على ما أذكر...
طأطأت رأسي في خجل... فقد كنت أتباهى كثيرا بجمال شعري و طوله خاصة في المناسبات العائلية... اللهم اغفر لي...
بادرته أمي قائلة :
ـ ألا تحدثنا عن أحوالكم هناك... كيف أمك و أخواتك؟
ـ بخير و الحمد لله... شكرا على سؤالك يا خالتي... سناء خطبت الشهر الماضي. تقدم لها شاب من زملائها في الشركة، أمريكي من أصل سويدي... شاب وسيم و عائلته غنية، كما أنه مهندس ممتاز...
تبادلت نظرات طويلة مع أمي التي سارعت بسؤاله :
ـ و هل هو مسلم؟
تكدرت ملامحه لكنه تظاهر بعدم الاهتمام و هو يقول في حرج، متحاشيا نظراتنا :
ـ الحقيقة لا أعرف شيئا عن ديانته... تعرفين في أمريكا المجتمع لا يضع اعتبارا لمثل هاته الأمور! ما داما متفقين و منسجمين فذاك هو المهم... أما المعتقد فتلك حرية شخصية...
اتسعت عيوننا دهشة ... لم أملك أن أعلق، لكن أمي التي بدأ وجهها يحمر سألته ثانية :
ـ و ما رأي سهام و محمود في الأمر؟
ـ أمي و أبي؟ عارضا قليلا في البداية... لكن سناء تأثرت كثيرا برفضهما، فتدهورت حالتها الصحية و أضربت عن الطعام ثم حاولت الانتحار... حتى وافقا أخيرا...
لم أكن أصدق ما أسمع... سناء؟! إنها تكبر أخاها بسنة واحدة... لم تكن قد ختمت تعليمها الثانوي حين سافرت عائلتها إلى أمريكا بسبب حصول عمي محمود على عقد عمل مغري هناك... كانت فتاة غاية في الجمال... مشاكسة و منطلقة. و أذكر أن مراهقتها لم تمر بهدوء حين كانت في البلد... لكن يبدو أن حالتها ازدادت تعقيدا هناك! فقد انقطعت عن الدراسة بعد أن أتمت بصعوبة بالغة دراستها الثانوية، و التحقت بالعمل كسكرتيرة في شركة مهمة هناك...
سألته أنا هاته المرة :
ـ و كيف حال سارة؟
ـ سارة... إنها متعبة حقا! بعد كل هاته السنين ترفض التأقلم مع الجو في أمريكا، فهي انطوائية و منعزلة عن أقرانها... و قد لبست الحجاب مؤخرا! مثلك... العيش في أمريكا يستوجب الكثير من المرونة للاندماج في المجتمع و بدء حياة جديدة... و إلا فمشاكل كثيرة ستكون في الانتظار!
تنفست الصعداء... الحمد لله أن سارة لم تتغير و حافظت على دينها هناك! فهي أيضا كانت صديقة مقربة لي. يا حبيبتي يا سارة... لم تستطع أن تتعود على نمط العيش الذي لم يناسب طبعها الرقيق و الخجول...
التفت إلي ثانية و قال :
ـ كنت قد أحضرت لك بعض الهدايا... انظري...
جذب حقيبته و أخرج مغلفا خاصا و مدني به. فتحته و العيون تتابعني... كان يحتوي عددا من القمصان الضيقة بدون أكمام ذات الألوان الصاخبة، و سروالا ذا شكل عجيب لا يمت إلى ما أعتبره "الذوق السليم" بصلة! و عددا آخرا من الإكسسوارات... أقراط و أدوات لتزيين الشعر... نظرت إليه مبتسمة، فبادرني قائلا :ـ أردت أن أفاجئك بآخر التقليعات الأمريكية في عالم الأزياء... لكن يبدو أنك لا تريدينها، أو بالأحرى لا أظنها مناسبة "للوكك" الجديد...
أعدت إليه المغلف فتسلمه متضاحكا و قال :
ـ لا بأس... يبدو أنه ليس من نصيبك!
كان يبدو عليه الحزن و الأسف لأن مفاجأته لم ترق لي فقلت مغيرة الموضوع :
ـ المهم، طمنا عنك... كيف تسير الأمور معك؟
انشرحت أساريره و هو يقول :
ـ لقد تخرجت منذ سنة تقريبا من كلية التجارة... و قد فتحت مؤخرا مكتبا مع بعض أصدقائي للاستيراد و التصدير... و الأمور تسير بشكل مرض و الحمد لله...
مرت السهرة في أحاديث عائلية ممتعة و قد استعدنا الكثير من الذكريات المشتركة التي تضحكنا و تسلينا... لكن قلبي كان منقبضا جراء ما وصلت إليه حال أبناء
عمتي من أثر التغرب و محاولة الاندماج في مجتمع قيمه مختلفة و أسلوب حياته مختلف...
في الصباح استيقظت كالعادة، و استعددت للذهاب إلى الكلية... ظننت أنني كنت أولى المستيقظين، لكن حين دخلت إلى المطبخ وجدت طارق يتناول إفطاره و أمي تقوم بتحضير إفطاري... رفعت حاجبي دهشة و أنا أحييهما فقال :
ـ تعودت على الاستيقاظ باكرا مذ بدأت العمل... فعلي اغتنام كل لحظة فيما ينفع!
نظرت إليه في إعجاب، ثم تناولت إفطاري على عجل و قمت مغادرة فلحقني قائلا :
ـ انتظريني سآتي معك...
التفتت إليه مستغربة فقال :
ـ أعلم أنك ذاهبة إلى الكلية، سأوصلك ثم أتمشى قليلا في المدينة...
نظرت إلى أمي التي هزت رأسها مشجعة و قالت :
ـ يوما سعيدا لكما...
يا إلهي... كيف سأخرج معه وحدنا و هو ليس من محارمي؟!!
<<< تـابعـــــــــــونا غدا باذن الله >>>