الحلقة التاسعة عشر:
تراجع طارق إلى الخلف و على وجهه علامات الذهول، و تسمّر في مكانه لا يبدي حراكا... غطيت وجهي بكفي و أجهشت بالبكاء من جديد و أنا أتمتم في أسف:
ـ آسفة يا طارق... لم أقصد إهانتك... لكنني في ورطة، و أنت تضعني في مواقف محرجة!
نظر إلي غير مصدق :
ـ أنا أضعك في مواقف محرجة؟! كيف؟! صدقيني لم أقصدك إيذاءك أبدا!
ربتت أمي على كتفي مهدئة ثم قالت وهي تهم بمغادرة المطبخ :
ـ أترككما لتحلا سوء التفاهم الذي بينكما في هدوء...
ثم ابتعدت في خطوات رشيقة...
قلت دون أن أرفع رأسي إليه :
ـ طارق... أنت أحرجتني... الآن حين أمسكت يدي... و في الصباح حين خرجت معي من المنزل... و أمام الكلية حين انحنيت لتوشوش في أذني... طارق نحن لم نعد أطفالا... و لم يعد بإمكاننا أن نتعامل مثل الإخوة لأننا كبرنا... و التزامي يمنعني من الخروج مع شاب أو الحديث معه على انفراد... حتى و لو كان ابن عمتي و صديق طفولتي... فالحدود الشرعية هي الحدود الشرعية و لا تقبل الاستثناءات...
كانت علامات الدهشة قد اختفت و راح ينصت إلي في انتباه و تفهّم، ثم اقترب مني مجددا و همس مواسيا :
ـ أفهمك يا مرام... أفهمك... و آسف حقا لأنني لم أراع مبادئك... صدقيني أنا أقدر تماما ردة فعلك... لكن لماذا لم تصارحيني بانزعاجك في الإبان؟! ظننت أننا اتفقنا على الصراحة بيننا...
ابتسمت و أنا أتذكر عهودنا الطفولية...
لكننا تغيرنا يا طارق و الدنيا من حولنا تغيرت...
الذكريات عفا عنها الزمن و لم تعد تعني شيئا كثيرا في الوقت الحاضر... عدا كونها ذكريات! نبتسم حين نتذكرها ثم نعود إلى الحاضر...
لكنك يا صديقي تتوقع أن يتجمد العالم في غيابك، فتجده كما تركته رغم مرور السنين...
ربما كانت تلك أحلى سنوات حياتك فتألمت لفقدها لذلك تحاول استعادتها بأية وسيلة حتى و أنت تعلم أن ذلك من ضرب المستحيل!
جلس طارق على الكرسي المجاور و هو يردف دون أن يدرك فحوى ابتسامتي التي صاحبت حواري الداخلي :
ـ أنت تعلمين أنني لا يمكن أن أسبب لك أدنى أذى عن قصد... لأنك...
ثم مستجمعا شجاعته :
ـ لأنك... غالية على قلبي... حتى أنني كنت أنتظر اللحظة المناسبة... لأحدثك في أمر ما...
أحسست بمصيبة قادمة، تحث الخطو نحوي!!!
و لم أكن مستعدة لمواجهتها فقررت الدفاع فورا... و بما أن الهجوم خير وسيلة للدفاع فقد ألقيت عليه قنبلتي... دون رحمة...
قاطعته قبل أن يسترسل في كلامه :
ـ هنالك شيء آخر يجب أن تعلمه يا طارق...
تطلع إلي مستفسرا فواصلت و أنا أتجنب نظراته :
ـ هناك شاب تقدم لخطبتي... و قد وافقت عليه مبدئيا... و من المقرر أن يقابل أبي في نهاية الأسبوع...
تجلت الصدمة في ملامحه و ابتلع ريقه بصعوبة و هو ينظر إلي محاولا التماسك. لكنني واصلت متجاهلة صدمته...
نعم لقد أدركت ما كان ينوي قوله... أدركت أن راوية كانت على حق حين شككت في نواياه تجاهي... و يؤلمني حقا أن أصده بهاته الطريقة... لكنني لم أضع حدا في اللحظة المناسبة، فصارت الردود الرقيقة غير مجدية لأنها تبقى غير حاسمة و قابلة للتأويل... فلأكن واضحة و صريحة... ألم نكن قد اتفقنا على الصراحة؟
فليكن!
كما أنها أسهل الطرق و أسلمها لي و له... حتى يتجنب كلانا الحرج الناتج عن المصارحة... و الرفض...
لذا كان يجب أن أوقفه قبل أن ينطق و أن أتفادى قدر الإمكان لحظة المواجهة...
و استرسلت في الكلام دون أن أواجهه لأعطيه مهلة استيعاب الأمر و تجاوز مفعول الصدمة :
ـ ... لكن رؤيته لك معي هذا الصباح أثارت تحفظه... و أخشى أن يغير رأيه... أنت تفهمني يا طارق... و لأنني أعتبرك أخي الأكبر و أعلم أنك تخاف على مصلحتي فقد صارحتك بقلقي... حتى لا يتكرر الموقف و سوء الفهم...
فجأة ارتفع رنين الهاتف، فوقفت بسرعة و اتجهت إلى البهو لأرد على المتصل...
إنها دالية...
ـ مرحبا دالية... كيف حالك؟
أجابت دالية بجدية و اهتمام :
ـ اسمعي مرام... لقد تكلمت مع حسام، و هو متضايق جدا من وجود ابن عمتك معكم في البيت! إنه يقول أن أباك مخطئ بالسماح لشاب أعزب أجنبي عنكم بالإقامة عندكم!
ـ لكنه ابن عمتي يا دالية... و هو ضيف عندنا و قد جاء من أمريكا لزيارتنا، فلا نملك أن نطرده!
ـ نعم... أعلم، لكن الوضع غير مقبول!!!
تنهدت في ضيق و هممت بأن أرد على دالية حين سمعت ضوضاء و وقع أقدام في الممر... تطلعت إلى المدخل الذي يمكنني أن أراه من حيث أقف...
سمعت صوت أمي أولا :
ـ و لكن يا طارق يا بني، كيف تغادرنا هكذا؟! انتظر حتى يعود خالك... ثم ألا تتناول العشاء معنا؟!
ـ شكرا يا خالتي... و لكنني قد اتصلت بأيمن ابن خالتي هيام و هو ينتظرني في محطة الحافلات... يجب أن ألحق به... شكرا على ضيافتكم، قضيت معكم وقتا ممتعا...
ـ أنت لست غاضبا من مرام؟!
ـ لا لا أبدا يا خالتي... كان مجرد اختلاف و قد حلت المشكلة و الحمد لله... لست متضايقا منها أبدا... و آمل أن لا أكون قد ضايقتكم بزيارتي المفاجئة...
ـ على الرحب و السعة... عد لزيارتنا قبل سفرك...
ـ إن شاء الله يا خالتي...
ثم حانت منه التفاتة إلى البهو... رآني فابتسم ابتسامة تجلت مرارتها... و حياني بيده قبل أن ينصرف و يغلق الباب خلفه...
كانت علامات الحزن بادية في صوتي و أنا أقول مخاطبة دالية :
ـ ها قد انصرف طارق من بيتنا... لم يعد هنالك داع للقلق...
<<< تـابعـــــــــــونا غدا باذن الله >>>