الحلقة الثالثة والعشرون:
وصل عمي مراد قبل دقائق من وصول حسام...
كنت قد حرضت أمي على إقناع أبي بدعوة أحد أعمامي إلى الجلسة حتى لا يرتبك حسام إدا كان اللقاء تحقيقا صارما وجها لوجه مع أبي! فقام أبي بدعوته لأنه أكثر إخوته قربا منه و أعمقهم صلة بكل ما يحدث في عائلتنا المصغرة... و كنت قد ارتحت نوعا ما لأن عمي تزوج صغيرا في السن بعد تخرجه مباشرة و قد ساعده إخوته كثيرا و أقام مع أهل زوجته لأنه ظروفه المادية حينها لم تكن تسمح له بالحصول على سكن مستقل... و هو الآن سعيد مع زوجته، كما أنني أجدها قريبة مني أكثر من أي واحدة من أزواج أعمامي أو حتى عماتي... كما أن عمي مراد يحبني كثيرا...
كل هاته المعطيات جعلتني أطمئن إلى حضوره، فهو أكثر من قد يتفهم وضعيتنا...
كنت قد رتبت غرفة الجلوس جيدا و زينتها بالزهور و مسحت الغبار في كل ركن، بل أمعنت النظر من كل زاوية لأتحقق من لمعان الأرضية، و من وضعية الوسادات المتربعة على الأرائك، و من شكل الستائر النصف مسدلة... و من صفاء بلور النوافذ... كان عملا مضنيا حقا! حتى أن أمي أعلنت أن غرفة الجلوس لم تكن يوما بمثل هذا الجمال و الترتيب!!
طبعا... فمناسبة اليوم لا تتكرر كثيرا! إنها أول مرة يدخل فيها حسام إلى بيتنا!
دخل عمي مراد إلى الغرفة لكنه ما لبث أن هتف :
ـ الجو خانق هنا! الطقس حار جدا اليوم!
هز أبي رأسه موافقا :
ـ نعم... لا يمكن أن ندخل الضيف إلى هنا... سنجلس في الحديقة...
سارعت أمي بتنظيف المقاعد في الحديقة الأمامية و فرشت غطاء مشرقا الألوان على الطاولة...
أما أنا فقد أحسست بخيبة لجهدي الضائع دون طائل!!
رن هاتفي الجوال... إنه ماهر...
ـ ما الأمر؟
ـ لم أجد العريس!!!
ـ لم تجده؟ كيف ذلك؟ قال أنه سيقف عند مدخل المحطة و سيرتدي سترة سوداء...
ـ لا يوجد أحد بهاته المواصفات هنا... هل تراه غير رأيه و عدل عن القدوم؟
ـ ما الذي تقوله؟! لا يمكن! انتظر قليلا ربما تأخر...
ـ لا يا أختي الحبيبة... ليس لدي وقت أضيعه معك و مع خطيبك الذي لا يحترم مواعيده! لدي مهام كثيرة متعلقة يجب أن أنصرف إليها!
ـ انتظر! لن تنصرف هكذا!!!!
لكنه أغلق الخط في وجهي!!!! جن جنوني... يا إلهي! ما جنتيه حتى تبتليني بأخ كهذا!!!
في تلك اللحظة فتح باب الحديقة الأمامية و سمعت صوت أخي ماهر يتحدث إلى أبي و عمي و بدا أن الجميع يرحبون بضيف ما!!!
هكذا إذن! يلعب بأعصابي و يغيظني! سوف يرى!!!
ما إن دخل إلى المنزل حتى سارعت أمسك بخناقه و أهزه بشدة :
ـ تسخر مني؟! طيب! خذ هذه و هذه...
ارتفع ضحكه و هو يتلقى مني اللكمات و الركلات
ـ أردت أن أختبر ردة فعلك... حتى حسام كان مغرقا في الضحك!!
سارعت راوية للوقوف وراء النافذة المطلة على الحديقة التي كانت نصف مغلقة. كان من الصعب أن ترى بوضوح وجوه الجالسين في الحديقة لأن زاوية النظر حادة لكن الأصوات كانت تصل نوعا ما... لحقت بها ثم تبعتنا أمي و تطاولت أعناقنا في محاولة للإنصات إلى الحديث الذي يدور في الخارج...
كان يبدو أنهم يتعارفون في ود و هدوء كأي أشخاص مسالمين وديعين ليست لديهم أفكار مسبقة و لا نوايا خفية... و اتضح بسرعة أن أبي و حسام كانا يتحدثان بتلقائية في مواضيع سياسية و فكرية و اجتماعية عامة... في حين جلس عمي مطرقا و قد غاص في كرسيه المريح... يغمس البسكويت في كأس العصير ببطء... كمحقق ينصت إلى ما يدور حوله باهتمام، متظاهرا باللامبالاة حتى لا يلاحظه أحد!
فجأة ساد صمت ثقيل على الجلوس... فحبسنا أنفاسنا خلف النافذة حتى لا يحسوا بوجودنا... و أخيرا بادر أبي قائلا :
ـ إذن يا بني... كيف تعرفت على مرام؟!
أحسست بتوتر شديد و لم أستطع الإنصات أكثر... فها قد بدأ التحقيق!
غادرت القاعة مسرعة و أغلقت على نفسي غرفتي و لبثت أذرعها جيئة و ذهابا في قلق...
بعد دقائق قليلة لحقت بي راوية و احتضنتني و هي تهتف في حماس :
ـ إنه حقا متحدث بارع!
نظرت إليها في لهفة :
ـ حقا؟! كيف ذلك؟
ـ عمي لم يقدر على تعجيزه! كلما سأله سؤالا أقام حجاجا متينا و مقنعا... لا بل أنه كان يخمن في كل مرة الجواب الذي ينتظره والدك و يرد عليه و يفسر وجهة نظره في لباقة... حتى أنه لم يتردد و لم يتلعثم... ثقته في نفسه عالية! كما أن ثقافته الدينية و الفكرية لا يختلف فيها اثنان...
تنهدت في ارتياح و اتسعت ابتسامتي
ـ تعالي يبدو أن الحوار يزداد تشويقا... تركتهما يتناقشان حول معاملة الزوج للزوجة و احترام كل منهما لحقوق الآخر!
تبعتها في خطوات سريعة و اتخذنا موقعنا كالعادة... كان حسام يتحدث عن تخطيطه لمستقبله و مشاريعه المهنية و أبي ينصت في اهتمام... ثم قاطعه قائلا :
ـ إنها مشاريع طموحة يا بني... أتمنى لك تحقيقها... لكنها تبقى مجرد مشاريع وهمية لا يمكن بناء أسرة على أساسها، فلا شيء منها مضمون...
ـ و لكن يا عمي... الأحلام لا تتحقق بين ليلة و ضحاها و يلزمها الكثير من الصبر و العزيمة ((و إن تعلقت همة المرء بما وراء العرش لناله))... كما أنني لا أتصور أنك يا عمي قد بنيت هذا البيت و وفرت كل المرفقات التي فيه قبل الزواج... فالرجل يحتاج إلى زوجة عاقلة إلى جانبه، تشاركه طموحه و تبني معه أحلامه خطوة بخطوة... و بذلك تكتمل سعادتهما... أم أنك ترى من الأفضل أن أعتمد على والدي في توفير السكن و العيادة؟ و لكنني لا أرضى لنفسي أن أعيش عالة على والدي... فهو حقق نجاحه بنفسه و أنا أيضا قادر بإذن الله على تحقيق نجاحي بنفسي... و ماذا إن كان والدي غير قادر على مساعدتي؟
أطرق أبي في اهتمام دون أن يجيب، في حين لم يترك عمي وضعيته المريحة لكنه اكتفى برفع رأسه ليتفحص ملامح الشاب الذي يجلس إلى جانبه، و التي كانت تنطق بمعاني التحدي و الثقة...
أما راوية فقد شدت على يدي في حماس و سعادة و هي تهمس :
ـ لقد كان رائعا!!!
كان قلبي يخفق بشدة... هل سينجح في تغيير وجهة نظر أبي الذي كان عازما على الرفض منذ البداية؟!
استمر الحوار طويلا... أكثر مما كان متوقعا، بالنسبة لمن كان يعزم على الرفض!
و كان حوارا ممتعا حقا لكل من تابعه... فقد بدا أن التلميذ النجيب نجح في حل أسئلة الاختبار القاسي الذي تعرض له!!!
كان الوقت قد تأخر و أوشكت الشمس على التواري وراء الأفق حين أنهيت الجلسة دون التوصل إلى عقد اتفاق يرضي الطرفين! فحسام كان يحاول جاهدا استخراج كلمة موافقة مبدئية من أبي الذي كان مصرا على المحافظة على الغموض...
جريت لأختفي في غرفتي رفقة راوية حتى لا أواجه أبي بعد انصراف حسام... و لبثنا ننتظر في قلق النطق بالحكم النهائي... و يبدو أن المفاوضات قد استمرت في قاعة الجلوس بين أعضاء هيئة القضاء الذين انضمت إليهم أمي...
مضت أكثر من ساعة قبل أن تدخل علينا أمي فتطلعنا إليها في لهفة و تشوق فقالت مبتسمة :
ـ يبدو أنه قد حاز على إعجاب والدك و عمك فكلاهما أعجب به... لكن...
اختفت علامات الفرح من وجهي و ارتسم عليه القلق :
ـ و لكن ماذا؟
ـ و لكن من الصعب إعطاء موافقة رسمية الآن لأنه لا يزال طالبا... فليتم دراسته أولا، ثم لنا حديث آخر...
ـ و لا حتى موافقة مبدئية؟؟
ـ و لا حتى موافقة مبدئية! لا موافقة و لا رفض!
ـ و ما رأي عمي في الموضوع؟
ـ في الحقيقة هو من اقترح الهدنة لمدة سنة حتى تتضح الأمور أكثر...
طأطأت رأسي في خيبة... فربتت راوية على وجنتي مطمئنة :
ـ الحمد لله أنه لم يرفض! ألم يكن ينوي رفضه دون نقاش؟! إذن فهذه علامة طيبة... و قد يغير رأيه في الأيام المقبلة... لا داعي للحزن!
ـ نعم معك حق... لم أكن أوقع نتيجة خيرا من هذه على أية حال...
ـ هيا اتصلي بدالية أخبريها... لا شك أن حسام ينتظر الجواب على أحر من الجمر...
اتصلت براوية و شرحت لها موقف أبي و عمي فابتسمت قائلة :
ـ على أية حال هو لم يرفض، مع أن حسام كان يريد خطبة رسمية حتى يمكن من زيارتكم و يتحدث إليك أكثر... لكن لابأس...
و قبل أن تغلق الخط هتفت ضاحكة :
ـ على فكرة... يبدو أن بعض الفضوليين كانوا يسترقون السمع من وراء النافذة!!
<<< تـابعـــــــــــونا غدا باذن الله >>>