الحلقة السابعة وعشرون:
كنت سعيدة للغاية بعلاقتي مع حسام... سعيدة لأنني وجدت فيه الإنسان الذي يحثني على الطاعات و يدفعني بعيدا عن المعاصي...
سعيدة بخصوصية علاقتنا حيث أنها بخلاف كل العلاقات بين الجنسين لا تؤدي بنا إلى فتنة... أو هذا ما ظننته لمدة ليست بقصيرة...
ثم... بدأ شعور بعدم الارتياح يتسلل إلي، و أخذت أتساءل : هل نحن فعلا على صواب؟ هل يجوز لنا حقا أن نتبادل الرسائل بكل حرية؟
كنت أرى أنها رسائل سليمة من كل ما يغضب الله... فهي في معظمها خواطر إيمانية... لكن تتخللها أحيانا سؤال عن أحوال العائلة و الدراسة... و قد يحدثني عن بعض المشاكل التي تعترضه في المستشفى... أو أسأله عن ما يتعسر علي من مواد دراسية... لكنها تبقى أحاديث في حدود الشرع، تراعي الحياء و الخلق الكريم... و لا تتناول المشاعر و الأحاسيس بتصريح أو تلميح...
لكن روحه المرحة كانت تعانق الكلمات و تطل من بين الأسطر و ترسم الابتسامة على شفتي في كل مرة...
و كلما جاء على ذكر علاقتنا المستقبلية، أسسها و شروطها و ما يجب أن تكون عليه... يزداد خفقان قلبي من المعاني الراقية التي أقرؤها...
لكنني في نفس الوقت أحس بوخزة في ضميري... هل تلك الأوقات الحلوة من حقنا؟ فقد كانت متعة حقيقية، و كنت أخشى أننا نأخذ الكثير و نفتح أبوابا جديدة سيكون من العسير إغلاقها أو التراجع دون الولوج منها...
و كان ارتباطي به يزيد يوما عن يوم... فلم يعد لي غنى عن رنته على هاتفي الجوال لتذكيري بالذكر اليومي و لا عن خواطره التي أنتظرها بفارغ الصبر... كما أنني أقضي الكثير من أوقات فراغي أكتب له... و قد أجد نفسي مقصرة في حق صديقاتي علي و أحيانا أتأخر في السهر لأن لدي دروس الطب أيضا لأراجعها! و إن تأخرت عنه في كتابة خاطرتي فإنه يعاتبني عتابا رقيقا، على أن لا أعيد الكرة... فقد بات هو بدوره يعيش نفس الإدمان!
و رويدا رويدا، صرت أعتبر رسائله من "خصوصياتي" فلم أعد أسمح لوالدتي بأن تقرأها كلها... فتقرأ بعضها أو أكتفي بأن أحدثها بنفسي عما ورد فيها... و هي لم تكن تصر على الاطلاع عليها واحدة واحدة لأنها كانت تثق في و باتت أيضا تثق في حسام بعد أن تابعت مراسلاتنا لفترة ليست بالقصيرة...
أما أبي فقد كان على علم بوجود اتصال بيننا... و لم يبد عليه الارتياح لذلك, لكنه لم يعلق يوما و لم يصرح بعدم موافقته... ربما لأنه "يقدّر" نوعا ما "التنازلات" التي أقدمنا عليها مقارنة بشباب عصرنا!!!
لكنني كنت أراوغ... أراوغ نفسي و ضميري و أبعد عنه هاته الأفكار...
كنت أقنع نفسي بأننا لسنا في خلوة و أحاديثنا بعيدة عن الشبهات... بل هي تقربنا من الله تعالى... كما أنها وسيلتنا الوحيدة للتواصل و التعرف على بعضنا دون المرور بقنوات الاتصال المباشرة التي تعتريها الشبهات...
فأغلق باب الهواجس و تعود حياتي إلى سيرها الاعتيادي كأن شيئا لم يكن...
إلى أن كان يوم...
كانت راوية قد بدأت تستاء مني منذ فترة لأنني اعتذرت مرات عديدة عن مرافقتها إلى بعض المتاجر في الوسط المدينة، لأنني بالكاد أملك الوقت الكافي للقيام بالتزاماتي! و الحقيقة فإن وقتي يمر بين قراءة و كتابة و تفكير... فإن لم أكن أقرأ رسالة حسام فأنا أكتب له... و إن لم أكن أكتب إليه فأنا أفكر في ما قاله أو فيما سأقوله في رسالتي المقبلة!!!
نظرت إلي راوية في يأس و هي تقول :
ـ من غير المجدي أن أسألك إن كنت تستطيعين مرافقتي إلى محل الحلويات!
نظرت إليها في اهتمام و خطرت على بالي فكرة :
ـ هل هو المحل الذي يقع قرب مسجد مركز المدينة؟
نظرت إلي غير مصدقة :
ـ نعم هو بعينه... هل ستأتين؟
ابتسمت و أنا أهز رأسي موافقة :
ـ نعم سآتي!
اقتربت مني هامسة :
ـ مرام... هل حصل شيء؟ هل اختلفت مع حسام على شيء ما؟
ضحكت في مرح و أنا أقول :
ـ أبدا يا راوية... ما من خلاف... لكنني تذكرت أن لدي بعض الأعمال في المدينة... ثم نمر للصلاة في المسجد قبل العودة... ما رأيك؟
هتفت راوية و هي تعانقني :
ـ أكيييييد موافقة!
كنت أفكر بشيء ما خطر على بالي فجأة... فرحت أراجع في ذهني كلماتي و أصوغ عباراتي و أستعد للحظة المواجهة... فقد كنت اتخذت قرارا و علي التنفيذ بسرعة قبل أن أتراجع...
نظرت إلى راوية مداعبة :
ـ لم تقولي لي... لم تذهبين إلى محل الحلويات؟ هل من مناسبة سعيدة؟
تضرج وجها فجأة و همست :
ـ سأخبرك فيما بعد...
تملكتني الدهشة للحظات... راوية تخفي شيئا ما!!! لم أر وجهها يحمر هكذا من قبل... و صوتها الذي خفت فجأة... أكيد أن هناك أمرا ما!
لكنني لم أصر على معرفة الخبر و اكتفيت بتسويفها على أن تخبرني فيما بعد، لأنني كنت أصلا منشغلة بموضوع آخر احتل كل تفكيري...
انتهت جولتنا بسرعة و اشترت كل منا ما يلزمها من المتاجر ثم توجهنا إلى المسجد لأداء صلاة العصر...
فرغنا من الصلاة ثم خرجنا مع جملة المصلين... توقفت أمام الباب الخارجي و قلت لراوية و أنا أعود أدراجي :
ـ انتظريني هنا... سأعود حالا!
هتفت في تساؤل و هي ترقبني أبتعد مسرعة :
ـ هل نسيت شيئا ما؟
لكنني لم ألتفت و دخلت باحة المسجد من جديد... لكنني توجهت إلى مكان صلاة الرجال! كانت القاعة قد خلت تقريبا إلا من الإمام و بعض المصلين المتأخرين. وقفت مترددة أمام الباب فاقترب مني شيخ كان يقوم بجمع المسابح و تنظيم المصاحف في أماكنها، و سألني :
ـ هل تبحثين عن شيء يا ابنتي؟
تورد وجهي في خجل و أنا أهمس :
ـ شكرا لك يا أبتي... كنت أريد الحديث مع إمام المسجد... هل يمكن أن...
ابتسم قبل أن أتم عبارتي و هو يقول :
ـ حسن... انتظري قليلا، سأعلمه بوجودك...
كان الإمام شيخا معروفا بوقاره و عمق درايته العلمية و الفقهية، يقصده أهل المدينة للسؤال عن الفتاوى الإيمانية و الشرعية و مختلف الأحكام الفقهية...
وقفت أنتظر و قد سرت في جسمي قشعريرة... يا إلهي كيف سيكون جوابه؟
و أخيرا رأيته يقترب في خطى وئيدة وقورة و ابتسامة حانية تعلو شفتيه... بعد السلام شرحت له على عجل قصتي مع حسام... كيف تقدم إلي و موقف والدي من مسألة الارتباط... ثم عزوفه عن المكالمات الهاتفية و اللجوء إلى البريد الاكتروني... و شرحت له أيضا حجم التغيير النفسي و الديني الذي صاحب ارتباطنا العاطفي و مساندتنا لبعض البعض في العبادات و الطاعات... و ختمت بقولي :
ـ لكننا نريد أن نرضي الله في كل خطوة... و قد لجأنا إلى البريد الالكتروني و نحن لسنا واثقين بعد إن كان خيرا أم شرا مع أن كلامنا يبقى ضمن الحدود الشرعية...
استمع إلي في اهتمام ثم تنحنح قبل أن يجيبني في ترو :
ـ يا ابنتي... بارك الله فيك و في هذا الشاب لحفاظكما على دينكما في زمن قد تحرر فيه الشباب من قيود الشريعة و صارت كل القيود التي يخشونها هي عيون المجتمع و عينه على هفواتهم في حين يغفلون عن عين الله التي ترقب الحركات و السكنات... و الله إن كلامك قد سرني كثيرا... فالأمة لازالت بخير إن كان فيها شباب مثلكما يتقي الله في نفسه و عرضه... و لكن...
حبست أنفاسي و قد شقت علي كلمة "و لكن" بعد أن كانت السكينة قد عادت إلى قلبي!
أطرق الشيخ للحظات ثم عاد ليستطرد :
ـ و لكن ليس من المفروض أن يكون بينكما قناة اتصال خاصة بكما غير خاضعة لرقابة الولي... لأنها تترك للشيطان مدخلا قد يتسلل منه و يتلاعب بالنوايا...
قاطعته معترضة :
ـ و لكن والدتي على علم بكل ما يقال بيننا!
هز رأسه و هو يقول :
ـ ذلك غير كاف! فوجود مساحة من الحرية هو الخلل الذي قد يؤثر على سير العلاقة... أنا لا أقول يا ابنتي أن تقطعي علاقتك بهذا الشاب تماما، فمن الواضح أن فيه خيرا كثيرا... لكن من الأفضل أن تمر الرسائل ببريد العائلة مثلا... كما يجب أن تكون متباعدة نوعا ما بحيث لا تشغلكما عن الدراسة أو غيرها من الواجبات تجاه النفس و العائلة... فكثرتها تجعل السيطرة على النفس و رغباتها أمرا صعبا، فتتسلل بعض المشاعر ضمن الكلمات دونما أن يستشعر كاتبها تجاوزاته... فإن كنت تريدين أن يبارك الله في هاته العلاقة في كل مراحلها فالأحرى الابتعاد عن الشبهات قدر الإمكان! فلا تكونان ممن خلط عملا صالحا و آخر سيئا...
تنهدت و أنا أقوم شاكرة...
فأردف الشيخ دون أن ينظر إلي :
ـ إن كنت تكبدت عناء السؤال... فالأولى أن تعملي بما علمت... حتى لا يكون حجة عليك يوم القيامة و العياذ بالله! فإن كنت تجدين في نفسك ضعفا و نفورا مما تسألين عنه فالأولى أن لا تسألي!!!
تسارعت دقات قلبي و أنا أغادر القاعة... فقد كان لكلماته الأخيرة وقع غريب...
خرجت لأجد راوية تنتظرني في قلق :
ـ لم تأخرت؟ هل وجدت ما كنت تبحثين عنه؟
هززت رأسي علامة الإيجاب و لم أنبس ببنت كلمة... كنت ساهمة متفكرة في كلام الشيخ... كنت قلقة قبل أن أذهب إليه، و غادرته في قلق أكبر! كنت أنتظر منه أن يطمئنني إلى سلامة تصرفاتنا... فقد صرت متعلقة بمراسلاتنا إلى درجة لا أتخيل معها انقطاعها فجأة تحت أي ظرف من الظروف!
و لكن ما العمل الآن؟! كيف أتصرف؟!
يا إلهي ألهمني الصواب...
نظرت إلى راوية من طرف خفي... كانت هي الأخرى منشغلة عني بحلوياتها التي كانت تمسكها في رفق و اهتمام... و تبادر إلى دهني تساؤل ملحّ... هل يمكن أن...؟؟؟
<<< تـابعـــــــــــونا غدا باذن الله >>>