الحلقة الثانية والثلاثون:
كان وجه راوية شاحبا حين التقيت بها بعد يومين أمام الكلية و قد بدا عليها أنها لم تنم جيدا الليلة الماضية... كان بإمكاني أن أتوقع السبب! فهي كانت أخبرتني عن عزمها مفاتحة والدتها في موضوع جاد و هي لا تتوقع أن تمر الحكاية بسهولة... و موقف والدها سيكون أصعب بالتأكيد!
ركضت نحوها في لهفة و بادرتها هاتفة :
ـ طمئنيني... كيف سارت الأمور؟
ابتسمت ابتسامة شاحبة و همست :
ـ و كيف تتوقعين أن تسير! أمي تحدثت معي بهدوء و تفهم لكنها طلبت مني أن أعيد النظر في الموضوع و أن أضع في اعتباري كل الصعوبات التي في طريقنا... كما أنها ليست واثقة من الشخص... فكونه أسلم حديثا يجعلها تعتقد بأنه ربما يكون أسلم من أجلي ظاهريا فقط... و أن الفرق سيظهر فيما بعد!
ربتت على كتفها مواسية و قلت :
ـ لكنك تعلمين أن جاد كان مهتما من البداية بالدين الإسلامي و أنت لم تكوني سوى واسطة! فرغبته في التعرف على الدين هي التي أدت به إلى التعرف عليك و ليس العكس! لمَ لم تخبريها؟
هزت راوية رأسها نافية :
ـ بلى أخبرتها! لكنها طبعا ترى أن موقفي لن يكون محايدا و أنني أتصرف وفق عاطفتي و ليس بإمكاني بالتالي أن أحكم جيدا على نواياه من وراء الإسلام!
تنهدت في أسى ثم استطردت :
ـ و ليست تلك المشكلة الوحيدة فهي أخذت تسألني عن عائلته إن كانت مسلمة... و كيف يمكن أن يتقبلوني... و حين أخبرتها بأن عائلته ليست موافقة على إسلامه أصلا و أن أباه دو مركز مرموق بين رجال الدين في بلده، أوقفت الحوار فورا و قالت بأن الموضوع منته! كنت أريد منها أن تفهم حساسية موقفه و الصعوبة التي يواجهها للعيش بدينه الجديد... لكنها بدل أن تشجعني على مساعدته على التأقلم بسرعة و تثبيته على عقيدته تدعوني إلى التخلي عنه! فكيف سيجد من يحتويه و يسانده إن كان كل المسلمين سيتصرفون إزاءه بنفور و حذر؟
أمسكت بيد راوية التي راحت ترتجف من الانفعال و قلت في هدوء :
ـ لا تستغربي ردها يا راوية! فهو رد كل أم تخاف على مستقبل ابنتها و لا تريد أن تلقي بها إلى المجهول! فجاد يبقى "المجهول" بالنسبة إليها نظرا لظروفه الغامضة و وضعيته الخاصة جدا! لا تتوقعي منها موافقة و ترحيبا و فوريا... ثم موقفها لا يعني أنها ضد اندماج المسلمين الجدد و تأطيرهم! بالعكس... لكنها لا تتصور أن ابنتها ستكون معنية بالأمر... فكل ما يحدث حولنا جميل... بشرط أن لا يمسنا و لا يؤثر في حياتنا! و هو منطق كثير من الأولياء إن لم نقل جميعهم حين يرون خطرا ممكنا يقترب من فلذات أكبادهم! لذا لا ترتعبي و تيأسي... على جاد الآن أن يقنعهم بنفسه... و بأهليته لك!
رفعت عينيها لتنظر إلي قائلة :
ـ و أين هو جاد؟! دراسته الآن في فرنسا... و الإجازات من المؤكد أن يقضيها في بلده... فلم يعد لديه سبب للمجيء إلى بلدنا الآن! إلا إذا...
تابعت مكانها قائلة :
ـ إلا إذا جاء ليتقدم لخطبتك... أليس كذلك؟ لا أظنه سيعجز عن إيجاد الفرصة المناسبة... إن كان يريد الارتباط بك حقا!
هتفت راوية محتجة :
ـ لكن حتى يتجشم عناء السفر إلى هنا فإنه في حاجة إلى موافقة مبدئية... أو على الأقل تشجيع مني و تمهيد!
ثم أردفت في صوت أكثر خفوتا و قد بدت عليها الحيرة :
ـ لكنني لا أعلم بعد كيف يمكن أن تسير الأمور... فأنا نفسي في حيرة من أمري! أحيانا أقول بأنني قادرة على التضحية، و أنني سأكون في مستوى ثقته و أكمل معه المشوار... و أحيانا أخرى أرى ما ينتظرني صعبا، بل شديد الصعوبة... و أخاف أن لا أصمد و يكون مصير علاقتنا الفشل!
نظرت إلى راوية في استغراب :
ـ لكن يجب أن تكوني أولا واثقة من قرارك و مما ترغبين فيه! فكيف ستقنعين والديك إذا كنت أنت نفسك مترددة و محتارة؟! ثم لا يجب أن تطيلي الأمد حتى تقرري فلا يطمئن الشاب و يعتقد بموافقتك، ثم تحصل له صدمة عنيفة إن رفضت...
غطت راوية وجهها بكفيها و هي تهتف :
ـ لا تصعبي المسألة علي أكثر! فإنني لم أنم البارحة من فرط التفكير! صليت الاستخارة... لكنني لم أستطع النوم... لبثت أحدق في السقف و أتخيل التطورات الممكنة للعلاقة... ثم أغفو في كل مرة لأرى صورا ضبابية و أسمع أصواتا متقطعة في نومي المتقلب... و قمت هذا الصباح و قد تعاظم قلقي... المسألة ليست سهلة! لو أنني تركت لقلبي زمام الأمور لوافقت منذ الوهلة الأولى... و لكن...
أطرقت راوية للحظات و هي تردف في صوت حزين :
ـ و لكن... الحياة ليست وردية دائما... و القصص التي تبدو لنا مثيرة و مسلية، لا تكون غالبا كذلك حين نعيشها!
لم أتمالك نفسي أن صرخت فيها في تأنيب :
ـ ما بك يا فتاة؟! ما هذا التشاؤم الذي حل بك فجأة؟! كأني بك تسدين كل السبل و تهولين الأمر؟! كأني بك تستعدين للرفض و تهونينه على نفسك بهذه المقدمات؟! لم تكوني هكذا منذ يومين!!! كان الأمل في عينيك و كنت واثقة من صدق جاد و ثباته! كنت أرى فيك إعجابا واضحا به و اقتناعا بشخصيته... فما الذي تغير حتى غيرت رأيك و صرت ترين الألوان القاتمة فقط؟!!! ألم تكوني أنت من شجعني على مصارحة حسام بمخاوفي و أن أثق في رجاحة عقله و حسن تفكيره؟ لم لا تفعلين نفس الشيء مع جاد؟! لم لا تتركين له فرصة إقناع والديك بنفسه؟
نظرت إلي راوية و قد بدت عليها علامات التردد :
ـ و لكن يا مرام... المسألة مختلفة هنا!
قاطعتها في عناد و قلت :
ـ ليست مختلفة إلا في ظاهرها! لكنها نفس المشكلة! مشكلة الثقة في الطرف الآخر! لكن يبدو أن جاد وثق فيك... فهو صارحك برغبته في الارتباط بك رغم أنه يعلم أن ظروفه صعبة نوعا ما... لكنه اعتقد أنك أكثر من سيقدر وضعه، لأنك ـ كما قال ـ كنت أول من استقبله على بر الأمان بعد صراع عنيف مع أمواج نفسه و مجتمعه!
كانت عيناي راوية قد تعلقتا بي و قد شحب وجهها و لم تعلق بكلمة فاستطردت قائلة :
ـ لكن في نفس الوقت لا تعتبري أن من واجبك القبول لمجرد أنه وثق بك و يعلق عليك آمالا كبيرة! يجب أن تكوني مقتنعة تماما بالشخص... بأخلاقه و دينه... و بشخصيته... فإن لم تكن لديك مؤاخذات من تلك الناحية في الوقت الحالي... فالأحرى أن تتركي له الفرصة كي يتقدم إليك و يكون له حديث مع والدك... أما أنت فواصلي استخارتك... و الله لن يخيبك!
هزت راوية رأسها في تفهم... و بدا عليها التفكر، ثم رفعت رأسها لتقول باقتضاب :
ـ حسن... سأفكر في الأمر...
تواصل سرحان راوية طيلة اليوم في الكلية... كانت مستغرقة في التفكير. كأنها أخذت نصيحتي بعدم التأخير بمعناها الحرفي! هل ستخرج بقرار سريع؟ اليوم؟!
تركتها في المفترق المعتاد حيث تنفصل طرقنا... و أوصيتها بأن لا ترهق نفسها كثيرا بالتفكير و أن تتوكل على الله... لكنها لم تكن مركزة معي! لقد سيطر الموضوع على عقلها و لم تعد ترى شيئا سواه...
لبثت أفكر في مشكلة راوية طوال السهرة... رغم أنني لم أكن معنية بالأمر إلا أنني لم أكن أستطيع الوصول إلى قرار عقلاني سليم! فكيف براوية المسكينة!
كنت أهم بالخلود إلى النوم حين وصلتني رسالة قصيرة على هاتفي الجوال. إنها من راوية! سارعت بقراءتها في لهفة ثم ارتسمت على شفتي ابتسامة مشفقة و أنا أعيد قراءة الرسالة :
(( لقد أرسلت إليه ردي... بالرفض... إقناع والدي شبه مستحيل! لا فائدة من تجشيمه العناء و بعث أمل كاذب في نفسه))
كنت أحس في داخلي بأنها تسرعت... ربما لم أتصور أن تنتهي القصة بتلك البساطة بعد أن رأيت صعوبات كثيرة تتهاوى... بداية من اهتمامه بالإسلام، ثم إسلامه ثم قطعه العلاقة مع خطيبته السابقة...
ربما كان عليها أن تعطي نفسها الفرصة... و تعطي جاد الفرصة حتى يثبت وجوده و استحقاقه لثقتها...
لكنني لم أملك أن أتهم راوية بالانهزامية أو السلبية لأنني واثقة من أن القرار كان صعبا عليها هي الأخرى...
<<< تـابعـــــــــــونا غدا باذن الله >>>