الحلقة الثلاثة والثلاثون:
كانت راوية مكتئبة حزينة طوال الأسبوع... كنت أعلم السبب، لكنني لم أستطع مواساتها. فقد كان قرارها و عليها الآن أن تتحمل مسؤوليته كاملة و ترمي بالماضي وراء ظهرها...
كانت المحاضرة على وشك البدء، و كنت أتخذ مكاني على المدرج. انتبهت إلى فتاتين جلستا أمامنا و قد راحتا في ضحك خافت متواصل، ثم سمعت إحداهما تهمس في لهفة :
ـ ها... و ماذا حصل فيما بعد؟
فردت الأخرى و هي تسيطر على ضحكها بصعوبة :
ـ و ماذا تظنين؟ بالطبع تركته بعد أن جعلته يتعلق بها... فتلك كانت خطتها من البداية! و لا أشك أن رهانا ما كان بينها و بين صديقتها على الإيقاع به!
شهقت الأخرى و هي تهتف :
ـ اللئيمة! بعد كل التنازلات التي أقدم عليها من أجل إرضائها؟! الحقيقة لقد دهشت حين علمت أنه بالفعل نفذ كل طلباتها الغريبة تلك...
هتفت راوية في ضيق :
ـ لم أعد أتحمل... يجب أن أخرج!
جمعت أدواتها بسرعة و حملتها على ذراعها ثم خرجت على عجل من القاعة!
ترددت نظراتي بين المحاضر الذي دخل القاعة للتو و بين راوية التي خرجت دون سابق إنذار، و لم أدر ما يتوجب علي فعله...
لكن حيرتي لم تدم كثيرا، إذ اقترب مني شاب وصل متأخرا و استأذن في الجلوس إلى جانبي... فأفسحت له الطريق و خرجت بسرعة على إثر راوية...
تلفتت حولي للحظات حين وجدت نفسي في الساحة التي أقفرت تقريبا إلا من عدد قليل من الطلبة المتخلفين عن محاضراتهم. كنت أبحث عن راوية التي خرجت كالسهم فلم أتمكن من اللحاق بها في الحين. ظللت أجيل بصري لبعض الوقت و لا أثر لراوية! ركضت نحو المشرب العام، المكتبة العمومية... ثم ناحية دورات المياه... لا فائدة!
عدت إلى الساحة و أنا أعقد حاجبي تساؤلا و دهشة... أين تكون قد اختفت تلك الفتاة؟؟ لم يبق إلا موقف السيارات لم أبحث فيه بعد... و رغم أنني أعلم جيدا أن راوية ليس لديها سيارة إلا أنني توجهت إلى هنالك كحل أخير ليس بعد حل إلا أن تكون غادرت الكلية تماما... مع أننا لا نزال في أول النهار!
و لشد ما دهشت حين لمحت راوية عن بعد تجلس على مقعد حجري في آخر الموقف و قد أسندت رأسها إلى الجدار الخلفي، مغمضة العينين في إعياء واضح... اقتربت منها في هدوء و جلست إلى جانبها.
انتبهت إلى حفيف ثوبي فقالت دون أن تفتح عينيها :
ـ آه... وجدتني إذن...
ابتسمت و قلت مداعبة :
ـ يا سلام... و هل تظنين بأنك قادرة على الاختفاء و الهرب مني؟؟
ابتسمت بدورها و هي تعتدل في جلستها و تلتفت إلي :
ـ طبعا طبعا... و كيف لي أن أهرب منك... و أنت تلازمينني كظلي!
دفعتها دفعة خفيفة متصنعة الغيظ و قلت :
ـ و الآن... ها قد حرمتني من المحاضرة... هلا أخبرتني ما الذي يضايقك؟
لم أجد منها إلا صمتا و إطراقا فتابعت :
ـ أعلم أن حديث تينك الفتاتين أثار في نفسك أشياء و أشياء... هل أنا مخطئة؟
ردت متجاهلة كلامي :
ـ كنت في حاجة إلى بعض الهدوء و حسب...
لكنني واصلت في تأكيد :
ـ ربما ظننت ما تقولانه ينطبق عليك... لكنك يا راوية لم تفعلي مع جاد شيئا مما كانتا تتحدثان عنه! فأنت لم تلق بشبابك نحوه و لم تحاولي شده إليك... و قرارك بالرفض كان عن اقتناع بأنه لا أمل في نجاح علاقتكما... أليس كذلك؟ إنه لم يكن من باب اللهو بمشاعره أو التلاعب به...
فجأة قاطعتني راوية و هي تهتف :
ـ لماذا لم يعاود المحاولة يا مرام؟ لماذا؟؟ لو كان متعلقا بي حقا ما كان لييأس من المحاولة الأولى و يتخلى عني بسهولة!
تطلعت إليها في دهشة و قلت في حيرة :
ـ راوية... أنت رفضته يا راوية! و ابتعاده النهائي و توقفه عن مراسلتك ما هو إلا احترام لقرارك... فهو لا يريد أن يفرض عليك نفسه و لا أن يسيء إليك بعد أن مددت إليه يد المساعدة!
أشاحت بوجهها و همست في خجل و تردد :
ـ لكنني كنت أتوقع أن يفهم أسبابي... و يحاول إقناعي بأنه الشخص المناسب... و أنه قادر على تحمل مسؤولية الوضع و إيجاد الحل المناسب له...
قاطعتها و أنا أتمالك نفسي حتى لا أحتد في وجهها :
ـ راوية! أنت أظهرت له بأنك لا تثقين فيه! بل لم تعطه فرصة أصلا و لم تصارحيه بمخاوفك! هل تذكرين... حين طليت مني أن أعطي فرصة لحسام و أن لا أرفض بناء على مخاوفي الشخصية و حسب؟ أين ذاك الكلام الآن؟
تأففت راوية و هي تهتف في يأس :
ـ مرام... قلت لك مائة مرة الأمر مختلف هنا...
قاطعتها مجددا و أنا أقول في هدوء أكبر :
ـ ليس مختلفا يا عزيزتي... لكن كلا منا يملك النصائح المناسبة ليقدمها لغيره. لكن حين تصبح المشكلة خاصة به فإن وضعه دائما مختلف، و مشكلته نادرة الوجود و المعوقات أمامه لا حدود لها، و ما من أحد يمكنه أن يفهم ما يمر به، و كل الأبواب مغلقة في وجهه، و العالم كله لا يستوعب درجة عذابه و...
قاطعتني راوية هاته المرة و هي تمسك بذراعي التي كنت أحركها في حركة مسرحية شارحة مدى تفرد المشكلة الشخصية في نظر صاحبها...
ـ كفى، كفى... فهمت...
ابتسمت و أنا أقول :
ـ لا تقلقي... كلنا هكذا... أنا أيضا حين رفضت حسام في المرة الأولى كنت أرى المسألة من نفس الزاوية... لكنك كنت تملكين رؤية أوضح من رؤيتي...
التقت عيوننا لبرهة قصيرة فتابعت شارحة :
ـ لكنني لم أملك رؤية واضحة لعلاقتك مع جاد... لأن ثقتك كانت مهتزة، ليس في قدرة جاد على إقناع العالم بمسألة ارتباطكما... بل ثقتك في جاد نفسه، في ملاءمته لك، أو ربما في طاقة تحملك أنت من أجل إنجاح العلاقة كانت مهتزة! و لما وجدت أنك غير متأكدة من موقفك لم أستطع أن أوضح أمامك الرؤية لأنك لم تتركي لي بصيصا أهتدي به...
كان الشرود باديا في عيني راوية، و أخيرا انفرجت شفتاها عن تنهيدة طويلة و هي تقول في أسى :
ـ هل تراه عاد إليها؟
ربتت على كتفها في عتاب و أنا أقول :
ـ هل ترين كيف تسيئين الظن به من جديد؟! أنت تعلمين أنه لم يتركها من أجلك... بل من أجل الإسلام، و من أجل أن يجد نفسه بعيدا عنها... و أنه لن يعود إليها لمجرد أنك رفضته... إلا إن كانت أسلمت و غيرت طريقة تفكيرها في الفترة القصيرة الماضية... و الله يهدي من يشاء! لكنك تستمرين في النظر إلى المسألة
كأنها مشكلة المشكلات التي ليس لها حل... بل أن المخرج الوحيد هو أن يتراجع جاد عن موقفه أو أن يخيب ظنك فيه حتى يجد ضميرك الحجة المقنعة للتسليم! تريدين رأيي؟
نظرت إلي في لهفة و هتفت :
ـ طبعا أريد رأيك! ماذا تنتظرين؟!
ابتسمت و أنا أواصل :
ـ كنت أنتظر أن تطلبيه! فالتردد الذي أنت فيه يثبت أنك لم تنسي الموضوع... و لن تنسيه بسهولة... لأنك غير مقتنعة أصلا بالقرار الذي اتخذته! أو ربما لم تحسي بالراحة بعد الاستخارة من جديد...
هزت رأسها موافقة و هي تقول :
ـ صدقيني، رغم أنني أنهيت الموضوع، فإنني واظبت على الاستخارة و أنا أدعو الله أن يهديني إلى سبيل إصلاح خطئي إن كنت اتخذت القرار الخطأ...
ـ طيب... و الآن ما يمكنه فعله هو الدعاء و الاستخارة بعمق و خشوع... حتى تخرجي من الحيرة التي أنت فيها. حين تصبحين متأكدة من موقفك تجاه جاد سيكون بيننا حديث آخر!
ترددت راوية للحظات قبل أن تهتف :
ـ أصبحت متأكدة من موقفي!
اتسعت عيناي دهشة و أن أرسل ضحكة قصيرة :
ـ بهاته السرعة!
ـ مرام، أنا جادة... لقد ندمت على تسرعي، لكنني لا أدري كيف أتصرف!
ثم مالت نحوي في تساؤل :
ـ ألا يزال على اتصال مع حسام؟
هززت كتفي و رفعت كفي أمامها كالمتهم ينفي إدانته :
ـ و كيف لي أن أعلم يا حبيبتي! فقد أعطيت عنوانه لدالية حتى تسلمه له كما طلبت مني، و شرحت لها دون إسهاب بأنه أسلم مؤخرا و في حاجة إلى من يقف إلى جانبه... و فقط! و من يومها لم أعد لسؤالها حتى لا تشك في الأمر!
بدا على راوية التفكير العميق و هي تتمتم في خفوت :
ـ هل تراه يفضي إلى حسام بشيء ما عن علاقتنا؟
نهرتها بشدة هاته المرة :
ـ راوية! ثقي فيه و لو لمرة واحدة! كيف له أن يتحدث عن علاقتكما مع شخص غريب و هو يعلم أنه يسيء إليك و إلى سمعته بذلك؟! إن كان يعتقد في أن لحسام تأثيرا ما عليك أو قدرة على إقناعك فكيف له أن يثق فيك بعد ذلك؟
ردت راوية في خجل :
ـ ربما يطمع في مساعدته... أو ربما يعلم أنني صديقة أخته...
ـ يا راوية يا حبيبتي... طلبه كان واضحا و رفضك كان أوضح... و المسألة لا تحتاج إلى المراجعة!
نظرت إلي في قلق و هي تهمس :
ـ و ما العمل إذن؟
وضعت يدي على خدي و أنا أهمس في تفكر :
ـ لا بد من وجود حل ما.
<<< تـابعـــــــــــونا غدا باذن الله >>>