الحلقة الرابعة والثلاثون:
عدت إلى البيت بعد يوم دراسي مرهق، و بعد أن نجحت بصعوبة بالغة في إقناع راوية بأن تترك الموضوع لي و تحاول التركيز على المحاضرات، مع أنني لا أملك حلا محددا...
تناهى إلى سمعي أصوات مختلفة و ضحكات مرتفعة قادمة من قاعة الجلوس... عندنا ضيوف إذن! من يكون تذكرنا في هذا اليوم يا ترى؟
عبرت الممشى بخطوات رشيقة فأخذت الأصوات تتضح أكثر فأكثر... بدت لي الأصوات مألوفة لكنني لم أستوعب الأمر جيدا... الصوت يشبه صوت عمتي سهام! لكن عمتي سهام، إنها في أمريكا... هل تكون عادت فجأة؟؟ غير معقول! بدون أن تعلمنا!
سارعت الخطو و ارتقيت الدرج إلى المنزل، ثم دخلت القاعة بعد أن طرقت الباب طرقات خفيفة لأنبههم إلى وصولي... التفت الحاضرون إلي و تبادلنا نظرات طويلة مليئة بالمعاني، ثم قامت عمتي سهام بسرعة لتحتضنني قبل أن أصل إليها و هي تقول في إعجاب واضح :
ـ مرام، يا حبيبتي لقد كبرت! بسم الله ما شاء الله... بسم الله ما شاء الله!
ثم استلمتني سارة صديقة طفولتي، لتبادلني قبلات حارة و على شفتيها ابتسامة واسعة تنطق بالسرور و السعادة...
ـ يا الله... لقد تغيرت أنت أيضا يا سارة! مبارك عليك الحجاب!
كنت أنظر إلى حجابها بإعجاب... فقد تطلب منها شجاعة كبيرة و مواجهة لمجتمعها الجديد، الذي لا يقتنع بمبادئها...
ـ مبارك عليك أنت أيضا يا مرام! أم تظنين أنك أنت فقط تكبرين يا حبيبتي!
تبادلنا ضحكات مرحة، ثم جلست إلى جانبها و انخرطنا في حديث ودي... لكن السنوات الماضية صنعت حاجزا بيننا، و غطت ثلوج الشمال المسافة بين قلبينا... فكان من الواجب أولا أن نذيب الجليد... أن تعرف كل واحدة منا ما جد في حياة صاحبتها و ما حل بها في السنوات الأولى للشباب... فانتحينا ركنا من المجلس و انسجمنا في حوارنا و نسينا أمي و عمتي اللتين كانتا جالستين غير بعيد عنا تتبادلان أطراف الحديث.
انتبهت على صوت عمتي و هي تتساءل حادجة إياي بنظرة ذات معنى :
ـ قال لي طارق أن هنالك من تقدم لطلب يد مرام... فهل تراكم زوجتموها دون علمنا؟
ثم استرسلت ضاحكة! احمر وجهي فجأة على ذكر تلك الحادثة... ما تراه قال لعمتي بالضبط ذاك الفتى؟!
وجدت أمي تجيب بسرعة دافعة عنها كل الاتهامات :
ـ ما هذا الكلام يا سهام! مرام حتى مازالت صغيرة... و والدها لم يرض بالارتباط أصلا... (ثم بصوت أكثر ثباتا) ولكن أنت من زوّج سناء دون علمنا... و من أمريكي أيضا!
بدا أن صفو الحديث بدأ يتعكر، و تحول لون عمتي إلى الأحمر ثم الأصفر... تطلعت إلى سارة، فوجدت وجهها قد امتقع... كان من الواضح أن تلك الزيجة أثرت في العائلة كلها... و تذكرت ملامح طارق حين تحدث عنها في تلك المرة... لا حول و لا قوة إلا بالله...
نطقت عمتي أخيرا بعد أن بدأت ملامح أمي تلين و تتحول إلى العطف و الاشفاق :
ـ ما حصل لم يكن بيدي... لكن يكفي أنها سعيدة...
بادرت لأغير الموضوع :
ـ و لكن أين سناء؟ ألم تأت معكم؟
ـ بلى... لقد جاءت معنا... فقد أراد زوجها أن يزور البلد و يتعرف على مسقط رأس زوجته... و قد أخذهما طارق إلى منزلنا مباشرة... فمايكل كان متعبا... لم يتعود على السفر لمسافات طويلة، كما أن الرحلة من أمريكا إلى هنا مرهقة... لكنني و سارة كنا مشتاقتين لرؤيتكم فأتينا مباشرة!
هزت سارة رأسها موافقة و هي تؤمّن على قولها :
ـ قررنا أن نأتي إلى هنا قبل أي مكان آخر... فلا تدرين كم اشتقت إلى رؤيتك يا مرام! و أنت أيضا يا خالتي...
أمسكت بكف سارة بين كفي و ابتسمت في حنان... يبدو أنها لاتزال تعيش غربة صعبة رغم مضي كل تلك السنين!
استطرت أمي قائلة :
ـ سرّنا كثيرا أن طارق خصنا بالزيارة في المرة الماضية... و يسرنا أكثر أن يكون منزلنا أول مكان تدخلانه بعد المطار!
تبادلنا ضحكات مرحة قبل أن تقول عمتي و هي تتطلع إلي بنفس النظرة الغريبة :
ـ أنت تعلمين أن أخي سالم هو أقرب إخوتي إلى قلبي... و أن مرام و ماهر هما أحب أبناء إخوتي إلي... بل أنني أحبهما كما أحب أبنائي تماما...
ابتسمت مجاملة عمتي، و أنا أتوجس خيفة من هاته المقدمات التي بدت لي غير سليمة! استعذت بالله من الشيطان الرجيم… إن بعض الظن إثم! عمتي تحبني… و ماذا في دلك؟
لكن عمتي استرسلت مخاطبة والدتي :
ـ طارق كان سعيدا جدا بزيارتكم... و قد ساعدته الرحلة إلى هنا على تغيير الأجواء و استنشاق هواء الوطن... لكنه أصيب بوعكة حال عودته!
تذكرت بسرعة الحال التي غادرنا عليها طارق... يا ربي... هل أنا السبب؟!
انتبهت إلى عمتي و هي تتابع :
ـ ... لم يعد يطيق المنزل... بل أنه يرغب في العودة النهائية إلى الوطن رغم أنه بدأ مشروعه منذ فترة يسيرة! يا الله... مضت فترة طويلة مذ رحلنا عن الأهل و الأحباب... الغربة صعبة يا أختي... لكن لست أدري أن أفرح أم أحزن لقرار طارق!
ثم التفتت إلي متسائلة :
ـ ما رأيك يا مرام؟
اكتسى وجهي بحمرة خفيفة و أنا أرد في اضطراب :
ـ رأيي أنا؟ فيم؟
استطرت عمتي تشرح الموقف :
ـ طارق يا ابنتي يريد العودة إلى الوطن في أقرب فرصة و بدأ مشواره من هنا... فقد كان لزيارته الأخيرة أثر بالغ في نفسه...
ثم أضافت باسمة :
ـ و أظنكما تحدثتما كثيرا في المرة الماضية كعهدكما منذ سنوات خلت...
لم أدر بما يمكنني أن أجيبها... فأطرقت صامتة. لكن أمي أنقذتني من الموقف بقولها :
ـ يا سهام... الصغار يكبرون، ينضجون و طباعهم تتغير... طارق ما شاء الله أتم دراسته و يدير مشروعه الخاص، و مرام كبرت هي الأخرى و إن شاء الله تتخرج طبيبة بعد سنوات قليلة...
قاطعتها عمتي في لهجة تأكيد :
ـ و إن شاء الله نفرح بهما قريبا!
ثم التفتت إلى والدتي في اهتمام و هي تقول :
ـ قلت أن خطبة مرام لم تتم؟ عسى أن يكون في ذلك خير...
بدأت شكوكي تتوثق من نوايا عمتي العزيزة... لكن هل طارق على علم بما تخطط له؟ من المفروض أنه فهم الموضوع جيدا في المرة الماضية و لا سبيل إلا معاودة المحاولة! أم أن عدم حصول الخطبة إلى حد الآن من الممكن أن يعطيه آمالا جديدة؟!
قاطع خيط أفكاري رنين الهاتف على الطاولة المجاورة لمقعدي...
ـ مرام... هلا رددت؟
ـ حاضر يا أمي...
إحساس غريب راودني و أنا أمد يدي لأرفع السماعة من موضعها :
ـ السلام عليكم و رحمة الله...
كان الصوت متوقعا لكن العبارة بدت في غير محلها! أو ربما غير منتظرة من ذاك الشخص بالذات!
ـ و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته... طارق؟!
ـ نعم... كيف حالك يا مرام... و كيف حال خالي و الوالدة؟
ـ بخير... شكرا لك... عمتي سهام عندنا...
ـ نعم... اتصلت لأسألها متى تود أن آتي لاصطحابها إلى المنزل هي و سارة...
وجدتني أسأل في ود :
ـ ألن تأتي لقضاء السهرة عندنا؟
ـ إن شاء الله في فرصة قادمة... شكرا لك يا ابنة خالي... لكن الجميع متعبون من السفر و لا يمكنني السهر كثيرا... في فرصة قادمة إن شاء الله...
لست أدري لم كان قلبي منشرحا بعد أن بلغت طارق بالموعد الذي قررته عمتي و وضعت السماعة... رغم أنه رفض دعوتي بكل لطف و ربما كان لا يزال مستاء مني و من الموقف المحرج الذي وجد نفسه فيه في لقائنا الأخير... لكن التغيير كان واضحا في لهجته، في عباراته، في طريقته و في صوته..
<<< تـابعـــــــــــونا غدا باذن الله >>>