عوائق الدرس اللساني في الثقافة العربية الحديثة
تأملات ابستمولوجية
حافظ إسماعيلي علوي امحمد الـــملاخ
نتوخى من خلال هذا المقال تخصيص بعض سمات تلقي الخطاب اللساني الحديث في الثقافة العربية. ولن يكون مسعانا رصد المحطات التاريخية للسانيات في ثقافتنا، وذلك على الرغم من أهمية هذا الجانب في بناء الذاكرة التاريخية للسانيات، وعلى الرغم أيضا مما يحمله من دلالات على مستوى تقويم المنجز، وتحديد عوائق النمو، واختلالات التمثل العلمي لأسس البحث اللساني بمعناه الحديث ورسم مسارات تطوره. بل سنركز على بعض الملاحظات المنهجية التي ستحدد مجرى مقاربتنا لتلقي الخطاب اللساني في العالم العربي، وهذا يدخل في إطار مشروع نتناول في إطاره أهمية بعض القضايا الابستمولوجية في إنضاج محاور الاستدلال، وتنويع المجالات المعرفية التي يمكن أن تحتضن كثيرا من الأسئلة التي كان يغلب عليها في المراحل السابقة الطابع الأدلوجي، ولم يرق النقاش حولها إلى المستوى العلمي... ومن أهم الملاحظات التي يمكن أن نشير إليها في هذا السياق:
أولا. إننا نعتبر الكثير من القضايا التي استأثرت بنقاش مسهب في الأوساط اللسانية، من قبيل أن المفاهيم والنماذج المعاصرة ذات جذور تراثية في النحو العربي أو البلاغة أو فقه اللغة، أو أن اللسانيات أداة واصفة استحدثت لوصف اللغات الغربية، وأن اللغة العربية لا توصف إلا بآلة النحو العربي، وقضايا أخرى أقرب مماثلة، لم تعد تطرح بنفس الحدة كما كان عليه الأمر خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، وربما يكون هذا من إيجابيات تطور اللسانيات في الثقافة العربية. فقد تزايد الوعي بضرورة تناول علاقة اللسانيات بالتراث تناولا إبستمولوجيا قادرا على فرز مستويات الفصل والوصل بين المفاهيم وآليات الاستدلال والظواهر الموصوفة في كل من التراث اللغوي العربي القديم واللسانيات الحديثة، فهذا الوعي بالأسس الميتودولوجية والفلسفية والمعرفية والصورية للخطابات يمثل المدخل المناسب للوقوف على حدود العلاقة بين القديم والجديد.
ثانيا. إن الانخراط في الممارسة اللسانية من خلال تبني أدوات النماذج اللسانية، قد ساعد على تحقيق شرط التراكم الذي مكن من تطوير النقاش حول مسائل كانت تخضع للنقاش العفوي، في حين أن صياغة تفسيرات دالة حول هذه المسائل كان يستدعي إنجاز ممارسة لسانية منضبطة بآليات الوصف والتفسير التي توفرها النماذج اللسانية، فمثلا مسألة ترجمة أوصاف النحاة القدامى إلى اللسانيات المعاصرة، أو اعتماد المفاهيم الواصفة النحوية القديمة ومعرفة مدى صلاحيتها لوصف معطيات العربية، أو ضرورة مراجعة المتون التمثيلية للغة العربية المتضمنة في أعمال القدامى، وغيرها من القضايا، كانت تستلزم مراكمة أعمال لسانية تطبيقية.
ثالثا. إن المسار التراكمي الذي قطعته اللسانيات في العالم العربي، خول إمكانية صياغة مشاريع بحث علمية تستهدف معالجة مجموعة من القضايا التي أصبح تناولها أمرا ممكنا ضمن مقاربة قطاعية sectorial متشعبة التخصصات؛ مثل إشكالية بناء ضوابط ترجمة المصطلح اللساني، أو إشكالية توسيع مجالات تطبيق اللسانيات نحو مجال الترجمة، أو تعليم وتعلم اللغات، والتخطيط اللغوي، والسياسة اللغوية، والمعالجة الآلية للغة، أو حوسبة اللغة العربية، أو المقارنة بين اللغات واللهجات... وقد تطلب استيعاب اللسانيات العربية لهذه القضايا تطوير البحث في تخصصات لسانية دقيقة مثل السوسيولسانيات والصرف والتركيب والدلالة والمعجم والذريعيات والمعالجة الآلية واللسانيات الحاسوبية واللسانيات المقارنة.
ولا نتوخى من خلال المقال رسم منحنى تطوري دقيق لمسار الدرس اللساني العربي الحديث، كما أشرنا آنفا، وإنما نود الوقوف على بعض العوائق والاختلالات الابستمولوجية والميتودولوجية والمؤسساتية المرتبطة بالممارسة اللسانية في الثقافة العربية، وسنحصر النقاش في مجموعة من المحاور الأساسية:
1 – إشكالية التراكم: على الرغم مما حققته اللسانيات العربية من تراكم على مستوى بناء الأوصاف الصواتية والصرافية والمعجمية والتركيبية والدلالية والذرائعية للغة العربية، فإن هذه الأوصاف المؤطرة بسلطة النماذج اللسانية ظلت محكومة بمجموعة من العوائق أهمها في نظرنا:
أ) عائق اللغة الموصوفة: ممثلة بسلطة الشاهد النحوي التي تمزج بين معطيات تنتمي إلى عربيات متباينة؛ عربية كلاسية وأخرى حديثة، وظلت تراوح دائرة المعطيات المكرورة والمتداولة، ولم تستطع النفاذ إلى معطيات جديدة في التركيب أو المعجم أو الدلالة، لأن لسانيات المتون لم تنضج بالشكل المطلوب في اللسانيات العربية، كما هو الحال في اللسانيات الغربية في ظل تطور أساليب المعالجة الآلية للمتون، وبالتالي أضعنا فرصة اكتشاف تحولات النسق اللغوي العربي، وحصرنا تمثلاتنا عن اللغة العربية في لغة منسجمة أو منشطرة إلى نوعين أو ثلاثة في أحسن الأحوال؛ لغة عربية كلاسية وأخرى حديثة ولغة وسطى دون أن يكون هذا التقسيم مدعوما بدراسات سوسيولسانية مدققة وبمسح تقني مضبوط لمتون تداول هذه اللغات من إعلام وصحافة وكتابات علمية أو أدبية، كما أضعنا فرصة تطوير لسانيات الظواهر باكتشاف معطيات للوصف جديدة. وبالتالي فالظواهر الموصوفة في التركيب أو الصرف أو المعجم أو الدلالة باتت مكرورة في مجموعة من الأعمال اللسانية قد تتجدد آلة وصفها، لكن المعطيات الموصوفة تظل هي نفسها. وعندما يتم الالتفات إلى ظاهرة قد تبدو جديدة، فإن ذلك يحدث بإيعاز من سلطة النموذج اللساني الذي يتبناه الباحث، والذي يعالج ظواهر مماثلة في لغات أخرى يبحث لها اللساني العربي عن نظيرها في العربية.
ب) عائق اللغة الواصفة: لا يقترن هذا العائق بعدم القدرة على استيحاء النماذج والأطر النظرية الصالحة لوصف اللغة العربية، بل قد نلفي الباحث اللساني العربي يتمثل نماذج متنوعة، تجعله يستوعب مدارس لسانية متنوعة المشارب من توليدية ووظيفية وغيرها. إلا أن اللغة الواصفة تنتمي إلى التكنولوجيا النظرية، وكغيرها من التكنولوجيات اللسانية النظرية فهي تضمر آليات استدلالية ومنهجية معقدة تدخل في سيرورة بناء لغة العلم وتحتاج إلى تمرس بالتقنيات المضمرة التي لا يصرح بها ونعتقد أن هذا التمرس يشكل القوة الدافعة إلى تطور الآلة الواصفة وإلى تطوير تفسيرات دالة قادرة على رسم منحنيات جديدة للنموذج أو النظرية.
فالتراكم الذي عرفته اللسانيات العربية ظل محصورا في نماذج محددة، ولم يحدث في إطار عدد من المدارس اللسانية مثل النحو العلاقي أو النحو المركبي المعمم أو النحو المعجمي الوظيفي...، ففي اللسانيات الغربية المعاصرة نجد البرادايم paradigme الواحد يحتضن نماذج متنوعة تعرف تطورات متشعبة، فالملاحظ أن المدارس السالفة تم التعامل معها بشكل ظرفي في الثقافة العربية وعرفت انقطاع السند. والملاحظ أيضا أن التنويعات النظرية والتوجهات التحليلية داخل البرادايم التوليدي لم يتم الانفتاح عليها في اللسانيات العربية بالشكل المطلوب أي لم نشهد بعد صراع مدارس لسانية داخل المدرسة اللسانية الواحدة. كما أن الخلفيات الابستمولوجية والفلسفية والاستلزامات النظرية لكثير من النماذج اللسانية تظل غائبة فيما يكتب في البحث اللساني العربي، فيتم تلقي آلة واصفة منقطعة السند عن أصولها الابستمولوجية والفلسفية.
كما أن التقاطعات المعرفية التي تشهدها اللسانيات في العصر الراهن مع عدد من العلوم مثل البيولوجيا والعلوم المعرفية والرياضيات والمعالجة الآلية والتقييسية للغة... جعلها تجدد حقل الاكتشاف ومجالات التفسير وتعيد بناء تصوراتها فلا مجال هنا للكلام المكرور. فهذه التطورات إن لم يتم استيعابها في الثقافة اللسانية العربية ستظل نقاشاتنا تدور في حلقة قضايا متجاوزة في مسار تطور العلم، فهناك عدد من القضايا التي ينبغي أن تعاد صياغتها وتصورها من جديد فالعلوم المعرفية في الوقت الراهن فتحت آفاق ناضجة لمناقشة عدد من المسائل مثل آليات تنظيم المعجم الذهني، وتقييس السلوك اللغوي الإنساني، ومعالجة الأمراض الكلامية والازدواجية اللغوية التي أصبحت تعالج ضمن البحث المعرفي كشكل من أشكال الازدواجية في التمثلات المعجمية والتركيبية الذهنية ولم تعد تطرح بالشكل الذي دأبت عليه الأبحاث السوسيولسانية في السبعينيات والثمانينيات والتي ما زالت أفكارها تتردد في عدد من الأعمال السوسيولسانية العربية.
إن مطلب التراكم ينبني على أسس علمية، كما يقتضي أن يكون مبنيا على استخدام سلطة العلم في الاكتشاف والتجديد والتطوير وابتكار أنجع الوسائل النظرية والاستدلالية لمعالجة مجموعة من المشاكل التي ينبغي أن يحصل تطور في معالجتها حتى يتسنى لنا الانتقال نحو مشاكل جديدة تستوجب حلولا نكون قادرين على ابتكارها ونعتقد أننا لا نحتاج إلى بديهة قوية كي نلاحظ ضعف التراكم على مستوى عدد من المسائل التي شكلت نواة برنامج البحث اللساني العربي مثل اللسانيات التاريخية أو المقارنة أو اللسانيات التطبيقية في مجال تعلم اللغات وتعليمها أو حوسبة اللغة العربية، واستعمال أدوات اللسانيات النفسية في دراسة الأمراض الكلامية للناطقين بالعاميات في العالم العربي، أو استعمال اللسانيات العصبية أو المعرفية في دراسة تمثلات الإنجاز أو الفهم عند المتكلم العربي.
2) إشكالية تأصيل التقاليد المؤسساتية لممارسة العلم:
إن ممارسة العلم المعاصر منغرسة في مؤسسات البحث العلمي فالعلماء ينتظمون في بنيات جماعية، ولقد كان لتوماس كون وإمير لاكاتوس دور كبير في تحليل سلطة التقاليد المؤسساتية في العشائر العلمية، ويفضي بنا النقاش هنا إلى سوسيولوجيا العلم، ودور مختبرات البحث والفرق العلمية المتخصصة أو المتعددة التخصصات بالمعاهد والجامعات ومراكز البحث في تطوير البرادايمات العلمية وتعديلها وإعادة صياغتها أو دحضها. فهذه التقاليد لم ترسخ بالشكل الكافي في المجتمعات العربية، لأسباب هيكلية وتنظيمية وتكوينية ومادية وسياسية...، فالحاجة أصبحت ماسة نظرا إلى ما تعرفه اللسانيات المعاصرة من نمو المقاربات المتعددة التخصصات، وظاهرة تشابك البراديمات compactification des paradigmes la إلى تشكيل مختبرات بحث متعددة التخصصات في اللسانيات المعرفية والحاسوبية والمقارنة. فالتراكم ضمن التطور اللساني أضحى من الممكن وصفه أفقيا وعموديا، إذ يحدث (التراكم) في مسارات متشعبة الخطوط ومتعددة الأبعاد، وهذه الصورة أصبحت تفرضها الخريطة الابستمولوجية للعلوم المعاصرة، ولا يمكن للسانيات العربية أن تتموقع في راهنية البحث اللساني المعاصر إلا ضمن هذه الخريطة المعرفية الجديدة لكي يكون لها إسهام ذا دلالة. ومن المفروض أن يدفع التنظيم المؤسسي لممارسة البحث اللساني إلى دراسة عدد من القضايا اللسانية في أفق علمي منفتح على تخصصات متقاطعة ومتعددة تفضي إلى توسيع أنوية النظريات بقوانين وقيود علمية جديدة من خلال تطبيقات ممتدة نحو مجالات فرعية جديدة.
3) إشكالية التأصيل الابستمولوجي:
غير خاف على متتبع الممارسة العلمية في الدول المتقدمة أن كل خطاب معرفي في قطاع من قطاعات المعرفة العلمية يستضمر كثيرا من التقنيات الاستدلالية والمفاهيم ذات الأصول المعرفية المتعددة، والمقدمات الفلسفية والطرق الاستكشافية، التي لا يصرح بها لأنها جزء من تقليد علمي منغرس في آليات إنتاج المعرفة الاستدلالية، وبالتالي فهذه المعرفة ضمنية، تتوارث بين الخطابات وتنتقل بين القطاعات المعرفية. غير أن المتتبع للكتابة اللسانية العربية يلاحظ أن من بين ما يجعل انخراطنا في إنتاج المعرفة اللسانية انخراطا سطحيا، كون السياق الميتودولوجي والإبستمولوجي الذي يؤطر إنتاج الأفكار وتبليغها غير مؤسس بالشكل المطلوب في مؤسساتنا العلمية، وهذا ما سنسعى في الكشف عن بعض جوانبه.
معلوم أن النماذج اللسانية لها أصول رياضية ومنطقية... وهي أصول مضمرة في تقنيات الصورنة التي تنتجها، والتي تسعى من خلالها في صقل الآلة الواصفة، وتوفير شروط محكمة لآليات الوصف تتقاطع فيها مع العلوم الأخرى وهي عبارة عن مبادئ ميتودولوجية،… إن الكثير من هذه الأصول لا يتم استحضاره في الدرس اللساني العربي، وهذا يعني أن جزءا مهما من سياق اللسانيات غير الظاهر يتم تغييبه، مما يجعل تلقي اللسانيات في الثقافة العربية تلقيا مبتورا. ومما لا شك فيه أن القدرة على التطوير تتأتى من القدرة على الامتلاك المعرفي للخلفيات الاستدلالية الكامنة وراء إنتاج الآلة الواصفة والنماذج الصورية، وهو ما يدعو إلى ضرورة إقامة تخصصات تدرس هذه القطاعات المعرفية.
إن تغييب هذه الجوانب يؤدي إلى عدم إدراك الأبعاد المختلفة لممارسة العلم. فالعلم له وجه فلسفي ووجه تقني؛ ويظهر وجهه التقني داخل المعرفة اللسانية في إطار النماذج الصورية التي تبنيها اللسانيات، وتطورها بتعديلها وتكييفها مع أنظمة اللغة الطبيعية أو مع أنظمة الحواسيب. فهذا البعد يقرب العلم من مجالات تسعى في استثمار المعرفة استثمارا تطبيقيا ملموسا.
وعليه فإن كل حديث عن تطور اللسانيات يظل حديثا عاما وفضفاضا ما لم تدرك أهمية امتلاك المعرفة اللسانية في بعدها التقني من ضمن أبعاد أخرى متعددة، إذ إن من بين خصائص العلم قدرته على تجاوز حدوده الخاصة، وقيامه بأبعاد تطبيقية تمس مجالات متباينة (تدريس اللغة، التخطيط اللغوي…).
إن الانخراط في هذه الأبعاد يقتضي امتلاك البعد التقني للعلم، وهو تملك لا يمكن أن يحصل في غياب استحضار الأصول المنطقية والرياضية للصورنة وأساليب بناء النماذج، وهو ما لم يحصل فيه تقدم في اللسانيات في الثقافة العربية بشكل خاص؛ وبذلك ظلت اللسانيات في ثقافتنا تواجه الظرفية والآنية في قطاعات مختلفة مما يجعلها غير فاعلة في محيطها الاجتماعي، ويظهر ذلك جليا في قطاعات دراسة اللغة وتعليمها والتخطيط اللغوي، وحوسبة اللغة… ويستعاض عن كل ذلك بتبني نماذج جاهزة.
ومما يقترن بما أسلفناه أن الكثير من القضايا التي يثيرها الدرس اللساني العربي، والتي تبدو للوهلة الأولى ذات بعد إبستمولوجي مثل قضية الوضوح والملاءمة والضبط، تطرح خارج سياقها، لتغيب الأبعاد التقنية من داخل النماذج وتغيب معها الأبعاد الإبستمولوجية. إن الكثير من القضايا التقانية التي تنبني عليها الاستدلالات في إطار اللسانيات، توجد في صلب تعريف النموذج كما هو واضح عند جون ديبوا الذي يقول: «نسمي نموذجا بنية منطقية أو رياضية تستعمل لرصد مجموعة من العمليات التي تملك فيما بينها علائق معينة» .
بالنظر إلى اللسانيات التوليدية، مثلا، نلاحظ أن مجمل البحوث التوليدية العربية هي تطبيقات تتفاوت في درجة تمثل النماذج التوليدية الحديثة، لكنها تشترك في كونها تعزل اللسانيات التوليدية عن السؤال الكبير الموجه للبحث في اللغة الطبيعية وهو معرفة اشتغال الذهن البشري وتحديدا اكتساب اللغة وتفسير مشكل أفلاطون: كيف للإنسان أن يكتسب معرفة لغوية منظمة بالرغم من فقر المنبه، وقصر المدة الزمنية التي يحصل فيها الاكتساب؟
إن تشومسكي ينخرط في البحث اللساني مستحضرا هذا السؤال، جاعلا منه موجهه في دراسته للغة الإنسانية، أما اللسانيات التوليدية العربية فإنها تبدو منعزلة لتغييبها السياق الميتودولوجي والتقني والفلسفي والمعرفي، فيقع تجزيء المشروع التوليدي واختزاله؛ لتتحول بذلك اللسانيات التوليدية في الثقافة العربية إلى نماذج صالحة للتطبيق على بعض ظواهر اللغة العربية؛ وذلك بانتقاء مبادئ وتعميمات الدرس التوليدي، وانتقاء الظواهر المناسبة لتمثيلها، وهي صورة ناقصة إذا ما قورنت بما ينجز في العالم الغربي داخل المشروع التوليدي، والذي يتحول إلى قطاعات معرفية جزئية تخدم الإطار العام للبرادايم التوليدي، ومن ذلك البحث في ظواهر اكتساب تراكيب في إطار علم النفس اللغوي للبرهنة على صحة الاستدلالات التوليدية، ودراسة أساليب الصورنة والاستدلال في النحو التوليدي لصقل النموذج علاوة عن تنوع مظاهر تطبيقه: الصرف، والتركيب، والدلالة، والصواتة، والمعجم...، إن الأبحاث التوليدية العربية تركز اهتمامها على بعض الجوانب دون غيرها، ومن ذلك على وجه التحديد البحوث التركيبية والصواتية، بينما تتم الإشارة إلى المستويات الأخرى إشارات محتشمة، وكأن اللغة العربية غير معنية بها. والواقع أن الكثير من تلك القضايا التركيبية في اللغة العربية مرتبطة في جوانب كثيرة بمستويات اللغة وتداخلها.
لقد كان من النتائج المباشرة لغياب الانسجام بين البحوث التوليدية العربية العجز عن تطوير أي نموذج من النماذج التوليدية وأي ملمح إضافي لم يتجاوز حدود اقتراح تعميمات جديدة لا تخرج عن إطار النظرية التوليدية العام، مع العلم أننا قد نقف على بعض الحالات الخاصة كما هو الحال عند عبد القادر الفاسي الفهري الذي عمل جاهدا على تطوير الكثير من تحليلات تشومسكي لتستجيب لمعطيات اللغة العربية، وعند بعض الباحثين الذين تكشف كتاباتهم عن دراية واسعة وعمق تحليلي . كما يلاحظ على الكتابة التوليدية العربية مراكمة أوصاف محددة، ومعلوم أن اللساني العالم ينبغي ألا يقف عند حدود ما هو ملاحظ، بل يجب أن يمتلك الحاسة الاستكشافية التي تمكن من استكشاف الظواهر ذات الدلالة بالنسبة إلى تطور النظرية أو النموذج، إن ذلك يجعل الكثير من الأوصاف التوليدية العربية تبدو مكرورة لأنها تعالج القضايا نفسها.
الهوامش والإحالات