طائر الفينيق
داود سلمان الشويلي
لم تكن المرة الاولى التي يجلس فيها في مثل هذا الوقت من الليل الموحش على ضفة النهر ، لقد ضاع حساب الليالي عليه .
كان - كعادته منذ سنوات – عند حلول الظلام ، بعد يوم من التعب في البحث عما كان يسميه بالسعادة في العمل ... كان يمر على محل بيع المشروبات ، نفس المحل الذي تعود ان يشتري منه كل مساء ... يبتاع له قنينة من العرق ، يدفع ثمنها بالكامل ، بعدها يمر على محل بيع الفواكه ، يشتري له ليمونة واحدة ... ثم يدلف في زقاق ضيق يفض به من خلال شبكة من الازقة الى حافة النهر دون ان يلتف الى ما حوله ، مما ينبض من حياة في تلك الازقة .
وكعادته ، يجلس على احد الكتل الكونكريتية المتبقية من احدى دعامات ذلك الجسر الذي لم يبق منه سوى كتل من الحديد المتآكل والملتوي على نفسه حاكيا سيرة حياة انتهت به الى مثل هذه النهاية .
- آه ...
قالها بحرقة ، ككل مرة في مثل هذا الوقت وفي هذا المكان ... احس بها تخرج من كل مسامات جسده المتعب .
مد بصره الى ما حوله ، كان الظلام مخيما كطائر ضخم مد جناحيه على وسعهما ... حتى النجوم ابت ان تلتمع في سماء هذه الليلة ، فيما اختفى القمر تماما تحت غمامة سوداء ملأت صفحة السماء كلها .
مد يده الى الكيس الصغير واخرج منه حبة الليمون الوحيدة ، نغزها بعود ثقاب كان يحمله في جيبه ، ثم ثم قربها الى شفتيه وامتص منهاقليلا مما فيها من سائل لاذع الحموضة ...
ظل نظره مزروعا في صفحة الماء الداكنة امامه بحركتها الهادئة الازلية التي تكان ان تكون ساكنة تماما ، اخرج من الكيس قنينة العرق ، وراح بأصابع قوية يفتح سدادتها المعدنية اللاصفة كبريق الذهب في هذا الظلام الحالك .
تعود ان يفتح سدادات القناني بيديه ... لم يترك للنادل – في أي نادي يجلس فيه – ان يفتح له السدادة ... كان يقول لمن يسأله عن السبب : ان لذة الشرب تبدأ من هنا ، من فتح القنينة ، وتنتهي باللهب الازرق المتوهج في قعرها ... اذ عندما كان يحتسي ما في القنينة يرمي في داخلها عود ثقاب مشتعل ، كان قعر القنينة يدفع باللهب الازرق الى خارجها يرافقه صوت يشبه فحيح الافعى ... عندها ينطفئ كل شيء في النفس ، ينطفئ ذلك الدبيب داخل شرايينه ، وينقبض القلب ... تتوتر الاعصاب ... ويدوخ الرأس .
مرة جلس بالقرب منه رجلا لم يكن قد رآه من قبل ، وبعد الكأس الاولى سأله الرجل عن المرارة التي كان يحسها وهو يعب الكأس بعد الاخر .
لم يشأ ان يجبه ... لم يود ان يدخل معه في نقاش يمتص ما كان يحس به من انتشاء وسعادة تلك اللحظة ... لكنه عندما سمع الرجل يكرر سؤاله اجابه : كلا يا صديقي ... ان السعادة تأتيني عندما اجلس امام هذه القنينة ، اما بعد ذلك فهي المرارة بعينها .
نظر الرجل اليه بأندهاش ، ومد يده الى كأسه وراح يرتشف منه السائل الحليبي بوجه تقلصت فيه كل عضلاته ، واغمضت عيناه كمن يتجرع كأس سم زعاف .
روعه كثيرا ذلك المرآى ... لم يكن يعرف ان بعض الناس تتجرع الخمرة وكأنها منقادة الى خشبة الاعدام .
تساءل مع نفسه : ما الذي يدفعهم الى ذلك ؟ ليجلسوا في بيوتهم يتسامرون مع زوجاتهم ، وليتركوا هذا الشأن لمن يجد سعادته فيه .
ابتسم عن اسنان اكلها التبغ والسوس ومد يده في جيبه واخرج قدحا صغيرا ملأه الى منتصفه بالسائل الزجاجي اللاصف ، وبيد واثقة عب ذلك السائل في فيه ، ثم راح يمتص من حبة الليمون رشفات تركت لسانه يمسح شفتيه الداكنتين بنشوة .
دفع بجسمه الى الخلف قليلا ، وافرج ما بين ساقيه الممدودتين واشبك يديه خلف رأسه مادا بصره الى حيث ذلك الطائر الخرافي الاسود المتهيء للاقلاع.
مرت ريح خفيفة في الفضاء الذي احتواه ، سمع حركة الماء الهادئة تمتزج بحفيف نباتات القصب الداكنة الخضرة النحيلة التي حوطت مكان جلوسه ... فيما كان نصف الجسر المتبقي يمتد شامخا ككتلة سوداء على يمينه .
قبل اكثر من ثلاثين عاما ، وبين سعادة الناس وفرحتهم بأفتتاح ذلك الجسر ، وجد هو الاخر سعادته عندما شارك يعض زملائه الشباب في قنينة عرق جمعوا ثمنها من جيوبهم الفقيرة .
كتنت المرة الاولى التي يتخلف فيها عن العودة الى البيت بعد حلول الظلام ... وعندما عاد في ساعة متأخرة ، وجد باب الدار مفتوحة ، وواليه نائمين ... اغلق الباب واغنية هادئة تنساب من بين شفتيه المغسولتين برائحة العرق ... لم يسأله احد عن سبب تأخره في صباح اليوم التالي ، ولا في كل صباح .
: ايه...
تنهد بصوت ضاع في ظلمة الليل كقطرة ماء في بحر ... فيما كان بصره ما زال مثبتا على ذلك الحيوان الحديدي الذي مد عنقه فوق صفحة النهر .
اكثر من ثلاثين عاما وانت تمد جناحيك على ضفتي النهر ... كيف تعطي نفسك لهم بهذه السهولة ... كيف ... كيف؟
لم يكن لسانه هو الذي نطق بتلك الكلمات ... كانت شفتاه مطبقتين على بعضهما ... فيما الكلام ينساب في تجاويف رأسه الثقيل ... عدها اخذ رشفة من القنينة دون ان يغير من وضع جلوسه ، وبصوت متلجلج كأنه يناغي طفلا صغيرا راح يخاطب تلك الكتلة السوداء التي امامه :
: كيف ...؟
: كيف تعطي نفسك ايها العظيم ؟
:أي مادة قاتلة زرعت فيك هذا الدمار ؟
ثم بصوت عال صرخ : لا ... لا ...
انتفض واقفا كالملدوغ وهويصرخ ...لا...لا... وتابع تنهدات صوته : لم تعطهم نفسك بسهولة ... لقد حاولوا معك كثيرا ... كانوا يحاولون اقتناصك لكنك كنت اكبر منهم ...كانوا جبناء ... جبناء وانذال ... ( وراح يهوم بيده وقد ضم اصابع كفه كمن يلاكم شخصا امامه) استغلوا فيك طيبتك ، حبك لاهلك ... انتظروك حتى نضم بين جناحيك مئات من احبنك ... صغارا وكبارا ، صبيان وصبايا بعمر الزهور ... واطفال كالرياحين ... كانوا يتربصون بك ... يعرفون انهم لم يستطيعوا النيل منك ... جبناء ... انذال ... تحينوا الفرصة ... وعندما رؤوك تحتضن محبيك هجموا عليك ... يعرفون انك سوف لن تدع محبيك ... كنت مزهوا بعبورهم بين ضفتيك ... عندها – لعنة الله عليهم - رموك بسهمهم القاتل .
: آخ ... أي عذاب قد نالك منهم ؟
وبعصبية زائدة فتح قنينة العرق وصب ما فيها من السائل الزجاجي اللاصف في فمه دون ان يحول بصره عن مخاطبه او يمتص قطرة واحدة من السائل الليموني ...
: كان عليك ان تضع في حسابك انهم جبناء ... كان عليك ان لا تعطيهم نفسك بهذه السهولة ... اسألك ايها الكابي ... في أي مكان كانت ابنتي العروس وزوجتي تسيران في طريقهما الى المحكمة الشرعية لعقد قرانها ... هل كانتا قرب السياج الايمن ام كانتا قرب السياج الايسر ... هل راقبتهن جيدا عندما طارت اجسادهن مع اجساد محبيك في الجو ؟ هل وقعتا على صفحة الماء ... هل كان باردا ؟ ام انهن سقطن على قطعة حديدك الصلبة الملتهبة ... تكلم ايها الـ ... تكلم ... تكلم ...
وبيد مرتعشة ، راح يطوح بالقنينة في الفضاء الداكن ... كان واقفا وبصره مثبتا على تلك الكتلة السوداء امامه ... والقنينة في كفه تدور ... طوح بها بشدة وهو يصرخ : تكلم ... تكلم ...
حررها من بين اصابع كفه ... فتدوم جسده ... ترنح يمينا وشمالا ... وتكوم مرة واحدة بين اعواد القصب المنتصبة .
18 / 10 / 1993