العلمانية المؤمنة (2)(*)
ليس دفاعا عنها
داود سلمان الشويلي
كثيرا ما استخدم اسلوب التجربة الشخصية – فكرية وتطبيقية - في مناقشة موضوع ما ،لانني اجد فيه حميمية اكثر ، و قلمي ينساب سهلا رخوا ، ولكن بإنضباطية عالية.
الموضوع الذي سأناقشه في هذه السطور ، هو ما كنت قد قدمت عنه دراسة سابقة ،الا وهو (العلمانية المؤمنة) (1)
، وقد وجدت – الان – الحاجة الى اعادة الكتابة في الموضوع ذاته ، اثراء له و من المفيد ان يطلع عليه القراء ، وخاصة الذين طرحوا تساؤلاتهم ، ان كان على الموقع الالكتروني الذي نشرت فيه الدراسة – وقتذاك - او من خلال الكثير من المناقشات على الشات ، عن المصطلح الذي طرحته في عنوان دراستي تلك ، وهو (العلمانية المؤمنة). (2)
اطرح في / على هذه السطور سؤال مفاده :ما الذي يخيف المسلمين من علمانية تتصف بالمؤمنة ؟
وقبل ان تتوضح الاجابة في هذه السطور،علينا توضيح وبيان الصفة التي وصفناها بها ، وهي (المؤمنة ) .
ان هذه الصفة التي وصفنا بها العلمانية (الوحش المفترس بالنسبة للمسلمين) (3) ، اي (المؤمنة) لم تكن غلاف سولفان نغلف به هذه (البضاعة الغربية) لنخفي ما فيها من عيوب، مهما كان نوعها و حجمها ونسبتها ، او ان تكون من باب اسلمة الافكار والمفاهيم والمصطلحات ... الخ ، كما يحاول الكثير من المفكرين (الاسلامويون) ومن الكتاب والكثير من علماء الدين في الكثير من (البضائع الغربية). (4)
انما جاءت هذه الصفة بديناميكية شديدة العمق وجذرية داخل الموصوف (العلمانية) ، انها علمانية مؤمنة بالمعنى القرآني (5)، انها مؤمنة بـ :
- الله . (6)
- الملائكة. (7)
- الرسالات السماوية. (
- الرسل والانبياء, (9)
- اليوم الاخر.
وعلى هذه العلمانية تطرح امورا كثيرة يمكن مناقشتها في هذه السطور ، من مثل:
- ان الله سبحانه خلق الكون وما فيه (والقوانين التي تتحكم به كذلك) .
والسؤال الذي تطرجه هذه العلمانية او يطرح عليها، هو: هل ما زال سبحانه – وسيبقى - يتحكم بالكون الى ما يشاء ؟
والجواب كما ترى ، هو : ان الله قد خلق الكون وما فيه ، ووضع قوانينه ، (ثم استوى على العرش) (10)
ان العلمانية المؤمنة تؤكد على:(( ان كل الظواهر الدنيوية ، الدولة ، التطور العلمي ، افعال البشر ، الظواهر الطبيعية ... على انها مسيرة من الله ، بل هي من فعل نواميس الطبيعة – الموضوعة من الله من النشأة الاولى - وكذلك البشر كل حسب العائدية ، اما ان يكون الله قد احكم القوانين العامة لخلقه ، الكون وما فيه ، فهذا ما اعتقد واؤمن به ، بعد ذلك فهي تسير ضمن قوانينها العامة تلك ، فالكون غير قادر على تجاوز تلك القوانين (النواميس)، والا فانه سيختل ومن ثم سينتهي ، ولا البشر قادرون على تجاوز ما جبلوا عليه من قوانين عامة (الا الحالات المرضية وهي امور ذات علة خارجية)، كل ينتج فعاليته من خلال قوانينه الخاصة التي تضمها القوانين العامة التي جبل عليها منذ النشأة الاولى)) . (11)
والتغير الحاصل في النفس البشرية على سبيل المثال لم يكن صادرا من الله حسب قوله في كتابه العزيز : ((ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم)). [الانفال:53 ](12)
- موقف الاسلام من العقل (بفاعليتيه: القديمة والحديثة).
ان الذي حدى بهذه الدراسة ان تطرح موضوع العقل، هو انها تنظر الى كل الظواهر الحياتية (أي الامور المرتبطة يالكائنات الحية) والطبيعية (الكون وما فيه)،نظرة عقلية ، أي انها تنطلق من العقل وتعود اليه لتعقل تلك الظواهر ، وتكتشف قوانين النشـأة الاولى للسيطرة عليها – على الظواهر - او على ما يعتورها من امور (كالمرض ، مهما كان نوعه ، بالنسبة للكائن الحي على سبيل المثال)، تحت اشتراط قرآني يؤكد على : ((يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان)). [الرحمن: 33 ]
ان العقل – وكما تقول الشيعة – هو أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا ينتفع شئ إلا به ، وقد جعله الله زينة لخلقه ونورا لهم ، و جعله الله قوامه وزينته وهدايته . (13) واعطته المعتزلة المنزلة الاولى في النظر والاستدلال لكل شيء، (14) وفضلا عن ذلك ،ان القرآن الكريم قد مجده وحث المسلمين على الاحتكام اليه ، بل وخاطيهم به .
وما وصلت اليه البشرية من تقدم على الصعيد البشري، و امكانية السيطرة على ظواهر الكون لتحسين ضروف الحياة، فكان به.
هذه بعض الامور التي وددت ان اتناولها في هذه السطور عن العلمانية المؤمنة .
ويبقى السؤال المطروح : ما المطلوب منا نحن المسلمون لكي نبقى مشاركين للاخرين الحياة على الارض دون ان نظل مستهلكين لما ينتجه الغرب على كافة الاصعدة ، ومحافظين على ايماننا الذي طالبنا به خالقنا بالقرآن ؟
هذا ما سنبحثه في دراسة قابلة.
06/10/2011
-------------------------------
الهوامش:
* استخدم (ليس) النافية للمرة الثانية او الثالثة في عناوين كتاباتي وربما سأستخدمها لمرات عديدة في قابل الايام عندما اناقش موضوعا هو بنفسه يحمل اليات الدفاع عن نفسه.
1 - نشر على موقع العلمانيين العرب وغيره.
2 - هذا المصطلح من وضعي ، وان كان قد استخدم سابقا ولم اكن قد اطلعت عليه لقصور مني فاقدم اعتذاري للقراء عن هذا الادعاء.
3 – هكذا عند الاسلامويزن.
4 - لا اعني بكلمة البضائع المفهوم التجاري الدقيق لها .
5 - اؤمن على المستوى الشخصي بهذا الايمان، لانه الايمان المطالب به كل مسلم من قبل الله في القرآن، بعيدا عن مفردات الايمان التي جاءت به المذاهب الاسلامية.
6 - دون تفلسف ، او الدخول بما جاء به اصحاب الكلام واختلفوا فيه من مواضيع ، من مثل الصفات على سبيل المثال.
7 - دون الدخول بما ادخل الفكر الاسلامي نفسه فيه، من خلال وضع صفات مادية للملائكة على سبيل المثال.
8 - ترى هذه الدراسة، و اعتمادا على العلمانية المؤمنة، ان ما جاءت به الرسالات السماوية من تشريعات - خاصة - هي تاريخية التطبيق الا انها يمكن ان تتسامى على التاريخ من خلال تكييفها تحت اشتراطات توالي الزمن وتقدمه ، وليس بالرجوع به الى الف واربعماية سنة ، زمن النزول.
9 - ودون وصفهم الا بما وصفهم الله به من انهم بشر مثلنا، تنزل عليهم الرسالة السماوية ليبشروا بها ولينذروا وليبينوا ويوضحوا مراميها ومعانيها السامية.
والرسول او النبي ليست له سيطرة على الناس كافة، او انه يستطيع ان يهديهم :
قال تعالى :
((فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر)). [الغاشية: 21 -22 ]
((إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)). [القصص: 56 ]
((ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون)). [يونس:42 -43 ]
10 - لا تشغل العلمانية نفسها بكيفية ونوعية وشكل واليات هذا الاستواء، لا لكي تجنب نفسها مسألة القول او عدم القول يالتجسيم الذي جاء به الفلاسفة واصحاب الكلام وانما لانها ترى ان الله يصف نفسه بما يشاء، دون ان يريدنا اتباعه او عدم اتباعه بهذا الوصف.
11- راجع دراستنا العلمانية المؤمنة.
12 - اما قوله تعالى : ((أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا)). [النساء:78 ]
فانه يقع تحت مفهوم النشأة الاولى ، إذ كل قد قدره الله وقضاه من النشأة الاولى ، انه يعلم بكل شيء يقوم به العبد دون ان يتدخل فيه .
حتى في قضية الدعاء واستجابة الله له - على سبيل المثال- ، على انه يغير ما سيقع من ضرر للعبد يقع ايضا تحت هذا المفهوم والعلم الاولي لله ، وليس تحت مفهوم البداءة الشيعي الامامي.
13 - راجع : الكافي - الكليني - ج 1 - ص 28 – 29.
14 - ولا تختلف قكرتهم الى اساس العقل عن نظرة الشيعة كما وضحناها قبل قليل . ونبعد سطورنا هذه عن الخوض في من هو اول من قال بهذه الفكرة.
اما المذاهب الاخرى، فهي ، اما انها نفته جملة وتفصيلا او قدمت عليه الشرع كالمذاهب الاشعرية.