العلمانية المؤمنة
داود سلمان الشويلي
في دراسة سابقة لي نشرت على هذا الموقع ، اتهمني احد قراءها بانني طائفي التوجه ، فرددت عليه بأدب: بانني علماني التفكير ، وعلمانيتي هذه علمانية مؤمنة ، أي بقدر ما انا علماني – بالمفهوم العام للعلمانية – فانا ايضا رجل مؤمن ، وايماني هذا ينطلق من الايمان الاسلامي، كوني رجلا ولد وتربى في عائلة ومجتمع اسلاميين ، وهذا ينطبق ايضا على من يعيش في كنف عائلة ومجتمع مسيحي ، او يهودي او براهمي او... او... او.
سألني – بعد ذلك - احد المتصلين بي على الشات عن مفهوم العلمانية المؤمنة ، منكرا وجودها ومن ثم الاعتقاد بها ، وله الحق في ذلك ، اذ انها من اعتقاداتي الخاصة ولا الزم بها احدا ، فبقدر ما انا مؤمن بوجود الله ومن ثم الانبياء والرسل ورسالاتهم السماوية ، او مفكري الانسانية الذين انتجوا ما يمكن عده دينا وضعيا ،كونفوشيوس وبوذا وغيرهما ، فضلا عن الفكر الانساني الاخر، فانا ايضا علماني لنظرتي الى الكون وما فيه من مخلوقات ، وما في تلك المخلوقات من شعور واحاسيس ، وحواس (افعال مادية وروحية).
لو عدنا الى اساس الفكر العلماني ، ومن ثم اصل اشتقاق الكلمة في اللغات الاوربية ، فإن كلمة "Saeculum" اللاتينية الاصل تعني في احدى معانيها "العصر" ثم تطورت الى ان تعني "العالم" أو "الدنيا". و اخذت منها الانكليزية كلمة "Secularism" التي اصبحت ذات رؤية دنيوية شاملة للكون وما فيه.
واذا كانت العلمانية في الاساس لا تصطدم مع الدين ولا اريد لها ان تكون كذلك ، فإن التطور العلمي الذي حصل في كل شيء بعد النهضة الاوربية قد جعلها عند البعض تتناسى المعتقدات الدينية ومن ثم تتصادم مع الدين حتى اصبحت العلمانية في اكثر معانيها شيوعا نظرة الحادية شاملة للكون.
في الفكر الاسلامي ، ولا اقول الدين الاسلامي ، ان القرآن كتاب معجر علميا ، واذا كانت بعض الايات القرآنية تدعو الى التفكر العلمي ، فهذا لا يعني انها تحمل قيم ونتائج علمية بحت ، مع العلم ان العلم غير ثابت النتائج فهو في حالة متغيرة وقابلة للتطور ، ان الدين ثابت والعلم متغير.
من هذا المنطلق واجه الكثير من فلاسفة ومتكلمي ورجال الدين الاسلامي علمية القرآن – او كون القرآن يحمل حلولا علمية لكل شيء- وقالوا بعدمها ، وهذا لم يضر القرآن شيئا، بل اخرجه من امتحان صعب اراد البعض ان يزجه فيه، فظهرت مدارس كثيرة ربما اهمها مدرسة المعتزلة ،ولا ننكر دور البعض من مفكري الاسلام في العصور السابقة والذين اتهموا بالالحاد والزندقة، مع العلم ان بعضهم كان مسلما مؤمنا ولم يكن الحاديا.
اقول: انا رجل مؤمن علماني، او علماني مؤمن ، ولا انظر الى كل الظواهر الدنيوية ، الدولة ، التطور العلمي ، افعال البشر ، الظواهر الطبيعية ... على انها مسيرة من الله ، بل هي من فعل نواميس الطبيعة وكذلك البشر كل حسب العائدية ، اما ان يكون الله قد احكم القوانين العامة لخلقه ، الكون وما فيه ، فهذا ما اعتقد واؤمن به ، بعد ذلك فهي تسير ضمن قوانينها العامة تلك ، فالكون غير قادر على تجاوز تلك القوانين (النواميس)، والا فانه سيختل ومن ثم سينتهي ، ولا البشر قادرون على تجاوز ما جبلوا عليه من قوانين عامة (الا الحالات المرضية وهي امور ذات علة خارجية)، كل ينتج قوانينه الخاصة ضمن القوانين العامة التي جبل عليها منذ النشأة الاولى .
اما الذي يدعي ان الله قادر على كل شيء ، فأقول له انت مصيب ضمن حدود، وهي حدود النشأة الاولى ، اما بعد ذلك ، فالله سبحانه لا ينقض ناموسا اقامه ، والا كان ذلك عبثا، والله حاشاه من ذلك.
هذا ببساطة ما كنت اعنيه بالعلمانية المؤمنة ، ولا ارى في ذلك وسطية لا في التفكيرولا في المنهج.
ان علمانيتي المؤمنة هي (العلمنة المعاشة كتوتر مستمر من اجل الاندماج في العالم الواقعي) كما يقول اركون.
وحتما ان هذا الاعتقاد سيغضب الكثير من اصحاب التفكير الدوغماتي .
الاربعاء، 17 آذار، 2010