الحلقة الواحد وثلاثون:
كانت التردد باديا على وجه راوية... لكنني لم أملك أن أتدخل في تلك اللحظة بالذات، فقد كان يجب عليها أن تتصرف بنفسها... أن تحكم عقلها و قلبها و تختار طريقها! لم يكن أصلا من حقي أن أتدخل في قرارها... ربما أنصحها و أشير عليها إن استشارتني... لكن في مثل داك الموقف، لا أحد من حقه أن يتصرف غيرها...
لبثت راوية متفكرة للحظات و قد ظهر الشرود في عينيها... لكنها حسمت أمرها بسرعة و سارعت لتكتب إجابتها قبل أن يتمادى جاد في حديثه :
ـ سارة اليوم اتهمتني بأنني حاولت أن أفرق بينكما و أنني السبب في ابتعادك عنها... و أنا لا يمكنني أن أتقبل تهمة مماثلة! و لا أظن أنه بإمكاني أن أواصل الحوار معها و هي تملك عني تلك الفكرة المسبقة... لذا أرى من الأفضل أن تطلب من شخص أكثر قربا منها، أو على الأقل ليست لديها شكوك في نواياه أن يحاول إقناعها...
أرسلت ردها و انتظرت لبضع ثوان حتى يقرأ كلماتها و يستوعبها ثم أضافت على عجل :
ـ كما أظن أنك لم تعد في حاجة إلي الآن... لذا فمن الأفضل أن نوقف اتصالاتنا... و إن احتجت إلى أية مساعدة في المستقبل، فإنه يمكنني أن أعرفك على أحد الشباب الملتزمين من الثقات حتى يواصل معك المشوار...
ألقت عليها قنبلتها... ثم تنهدت كمن أزاح عن كاهله حملا ثقيلا، لكن الحزن كان باديا في ملامحها... فلم تكن الخطوة سهلة بالنسبة إليها خاصة أنها علمت أخيرا أنه لم يعد يحمل أية مشاعره لصديقته المسيحية...
لبثت عيوننا متعلقة بالشاشة في انتظار إجابة جاد الذي بدا أن نوعا من الشلل أصابه لبضع لحظات، بعد الانفجار الذي أحدثته القنبلة طبعا، قبل أن يقرر إرسال جوابه إلى راوية :
ـ أنا آسف حقا لأنني وضعتك في موقف محرج و اضطررتك إلى سماع كلمات جارحة من سارة... أنا آسف جدا جدا... و مستعد لفعل أي شيء لأنسيك تلك اللحظات، مع أنني أعلم أنني لن أقدر على إيفائك حقك مهما فعلت...
كانت راوية تتطلع إلى الكلمات التي ظهرت أمامها و قد التمعت عيناها بدمعة تنذر بالنزول، و بدا عليها التأثر... همت بأن تكتب شيئا ما لكنه كان قد سبقها :
ـ راوية... أنا في حاجة إليك أكثر من أي وقت مضى، و لست مستعدا لفقدانك مهما حصل، خاصة في هذا الوقت بالذات...
تراجعت أصابعها عن لوحة المفاتيح كمن أصابته صعقة كهربائية و تجمدت ملامحها فجأة... لكن عينيها ظلتا مركزتين على الشاشة، فقد بدا أنه لم ينته بعد :
ـ ربما يفاجئك كلامي... و ربما لا أكون اخترت التوقيت المناسب... و ربما أكون قد تسرعت، فأنا لا أعلم شيئا عن حياتك الخاصة... لكنني أخشى إن تباطأت أن أفقدك، لذا اعذريني...
لم تلتفت راوية إلي، بل أنني أظنها نسيت وجودي في الغرفة و حلقت بعيدا مع كلمات جاد التي كانت تتمناها و تخشاها في نفس الوقت. كانت تتمناها ككل فتاة نشأت في قلبها مشاعر بريئة و ترجو أن يبادلها فارسها المشاعر لتعيش أحلى المغامرات و تدخل عالم الحكايات الرومانسية... و تخشاها ككل فتاة ملتزمة طاهرة القلب سليمة الطوية، ترقب الله في أعمالها و تخشى الزلل إن هي استسلمت للتيار الذي يسحبها إليه مخاطبها...
ـ راوية... أنت كنت نقطة تحول في حياتي... و كنت من ساعدني لاتخاذ أجمل قرار من الممكن أن يتخذه إنسان! و لست أبالغ إن قلت أنني عدت إلى الحياة من جديد و عرفت أجمل المعاني بفضلك... كنت أول من استقبلني على الضفة بعد طول مصارعتي للأمواج... و أتمنى أن تضلي إلى جانبي... إلى الأبد...
كانت مقاومة راوية تضعف أكثر فأكثر و رأيت عباراتها تنساب على وجنتيها في هدوء، و النظرة الحالمة المنكسرة لا تفارق عينيها. اقتربت منها و أحطت كتفيها بذراعي... فارتجفت و هي تضع رأسها على كتفي و تستسلم لدموعها و هي تهتف في حيرة:
ـ ماذا أفعل يا مرام؟؟
ابتسمت و أنا أربت على رأسها في حنان :
ـ لماذا البكاء يا حبيبتي؟ كنت تشكين في مشاعره تجاهك... و ها قد تأكدت! بقي عليك أن تحسمي أمرك بعد مهلة من التفكير، و تخبريه في الأثناء بحدود العلاقة في المستقبل... ليس في الأمر أية معضلة!
لم يبد على راوية الاقتناع فقد كان هنالك أمر آخر يؤرقها :
ـ و لكن سارة... إنها لازالت متعلقة به... هل نسيها فعلا؟ هل تغير من ناحيتها فجأة؟ و ماذا لو أسلمت؟ ثم هو تعلق بي لأنني ساعدته على التعرف على الإسلام حتى أسلم... ما يدريني أنه يريدني أنا بالذات و ليس أي فتاة أخرى قد تقوم معه بنفس الشيء؟!
اتسعت ابتسامتي و أنا أقول :
ـ طيب... و ماذا إن كانت أي فتاة أخرى هي من سمعته من قبل في المكتبة يتحدث عن المسيحية و ذهبت لتناقشه... و ماذا إن كان شاب آخر غير حسام هو من تفطن لحوارنا و تدخل؟ لما كنت تعرفت على حسام و لا كان تقدم لخطبتي!!! تلك أسباب من عند الله يسخرها لعباده! فلا تفترضي المستحيل... ما حصل قد حصل! أما بقية الأسئلة فلست أنا من يمكنني الإجابة عنها! عليك أن تكوني واضحة معه و تضعي أمامه كل تساؤلاتك و شكوك... ثم استخيري الله...
مسحت راوية دموعها بظاهر كفها و ابتسمت في تردد. فدفعتها في رفق و أنا أقول :
ـ و الآن هيا... أجيبيه بسرعة... قبل أن ينفد صبره!
التفتت إلى الشاشة فتفطنا إلى أنه لم يتوقف عن الكلام! و قد غطت رسائله الصفحة :
ـ راوية... ربما يبدو لك كلامي غير منطقي، أو أنني أحس عاطفة عابرة أو عرفانا بالجميل، أو رغبة مني لرد معروفك... و لكن لا كل هذا غير صحيح! فأنا فكرت كثيرا في الموضوع منذ نشأ في نفسي ذاك الإحساس... و قد وجدت أنك بالفعل الإنسانة التي أبحث عنها... إضافة إلى تدينها و التزامها، واعية و رقيقة، مرهفة الإحساس، و تهتم لآلام الآخرين و همومهم...
...
ـ أعلم أنك قد تتساءلين : و سارة، ماذا كانت بالنسبة إليك؟ و من حقك أن تتساءلي... و من واجبي أن أجيبك... سارة هي رفيقة درب، شاركتني طموحاتي في مرحلة معينة... ربما لم تكن الإنسانة التي أريد، و ربما لم أكن أوافقها في الكثير من تصرفاتها، لكنها كانت لي خير عون في مرحلة صعبة حال مجيئي إلى بلدكم... و كانت هي ضمن مجموعة من الأصدقاء الذين خففوا عني كثيرا، و بحكم وحدة الدين فإننا تقربنا من بعضنا بسرعة... ثم حدثتني عن الارتباط حتى لا تضيع طموحاتنا... كانت فتاة جريئة... و أنا لم أمانع في البداية... لكن يوما بعد يوم، صرت أتحفظ على تصرفاتها و طريقة فهمها للالتزام و تعاملها مع الدين... و أظن أن انفصالنا كان النهاية الطبيعية للعلاقة بعد أن اكتشفت أننا نشترك في المبادئ ظاهريا فقط... أما المعاني العميقة فكانت في غاية الاختلاف... لأن الإيمان ليس له نفس الطعم في كل القلوب...
...
ـ راوية أنا آسف إن كنت أمعنت في التحدث عن نفسي و أنا حتى لم أسألك إن كنت مرتبطة بشخص آخر...
...
ـ راوية... هل تصلك رسائلي؟
...
ـ راوية، أنت هنا؟
...
ـ إن كنت هنا أرجوك أجيبي...
...
ـ أعلم أن الموضوع محرج بالنسبة إليك...
...
ـ لكن إن كنت أخطأت بعملي هذا فأخبريني بالله عليك!
...
ـ إن كان جوابك الرفض فلا بأس... فقط كوني صريحة معي!
...
ـ راوية؟
...
ـ هل أفهم من هذا أنك لا تريدين حتى الرد علي؟
...
ـ طيب... كما تشائين
...
ـ آسف إن كنت تجاوزت و حدودي و طمعت في عطفك و سعة صدرك...
...
ـ شكرا على كل ما فعلته من أجلي
...
ـ وفقك الله في مسيرتك المستقبلية
...
ـ سررت جدا بالتعرف عليك... و يؤسفني حقا أن تنتهي علاقتنا بهاته الطريقة
...
ـ الوداع...
كنت قد انتهيت من قراءة الرسائل التي كتبها أثناء حديثي مع راوية في نفس الوقت الذي ارتمت فيه راوية على لوحة المفاتيح في لهفة :
ـ جاد... أنت هنا؟؟
تنهدت حين جاءتها رسالته بسرعة و قد عادت إليه الروح من جديد :
ـ راوية؟ أين كنت؟ ألم تصلك رسائلي؟
ـ بلى وصلت... لكنني كنت أفكر...
لم يرد جاد و لبث في انتظار أن تخبره بنتيجة تفكيرها... لكنها تلكأت قليلا و التفتت إلي مبتسمة و هي تهمس :
ـ ماذا أقول؟
ـ اطلبي مهلة للتفكير!
ابتسمت و عادت لتخبره بأن يمهلها كي تمعن التفكير في الموضوع...
سرحت قليلا و تخيلت راوية و قد ارتبطت بجاد... و لم أتمالك نفسي أن أطلقت ضحكة قصيرة... لم أتخيل أبدا حدثا كهذا حين رأيت جاد للمرة الأولى في المكتبة! معقول؟ هل تكون تلك النهاية حقا؟
فجأة خطرت ببالي بضع التساؤلات فالتفتت إلى راوية و هتفت :
ـ هل تعلم عائلته بإسلامه؟ كيف يتقبلون الأمر يا ترى؟ و كيف سيتقبلونك أنت؟
تمهلت قليلا متفكرة ثم استطردت :
ـ ثم لا تنسي أن جاد جاء لبلدنا للدراسة و حسب... و في نهاية الأمر، أظنه سيعود إلى بلده ليستقر هناك! كيف ستتصرفين؟ و كيف ستكون حياتك في بلد آخر و مجتمع مختلف؟ فلا أخفي عليك أنني سمعت عن كثير من الزيجات بين أشخاص من جنسيات مختلفة منيت بالفشل...
نظرت إلي راوية كالمبهوتة... فقد كان من الواضح أنها لم تفكر في الأمر إطلاقا.
<<< تـابعـــــــــــونا غدا باذن الله >>>